علي سفر
قد يكون من التسرع تفسير الفورة الراهنة لمنصات الحوار “البودكاست” في مواقع السوشال ميديا المعروفة، بأنها تعود إلى حاجة السوريين الماسة للحوار في ما بينهم، بعدما مضت عشرات السنين، من دون أن يحظوا بفرص حقيقية لممارسة هذه الخاصية البشرية ذات الفائدة الرهيبة في تطور الجماعات والأفراد.
وقد يكون أيضاً من غير المنطقي، تسخيف تكاثرها، عبر القول بأن هذا يعود إلى حاجة أصحابها إلى “موارد رزق”، تقدمها لهم شبكات استضافة، مثل “يوتيوب” و”تيك توك”، لا تطلب منهم مقابلاً، بل تسعى لأن يحصل هؤلاء على أوسع شريحة من المتابعين، كي تقاسمهم أرباح الإعلانات وهدايا المعجبين!
نحتاج من موقعنا، أياً كنّا، صُنّاع محتوى أو مجرد متابعين، أن نفهم من دون استعجال، وبلا تقليل من أهمية ما يجري، إن كان مهماً طبعاً؛ لماذا تتفجر كل يوم، وفي منصات متعددة، الأسماء والتوجهات، والحوارات مع أشخاص فاعلين في مجالهم، فيما لا يؤدي تكاثف هذه التجارب إلى استحواذ واحدة منها على الحصة الأكبر من المشاهدين أو المستمعين!؟
وأن نحصل على جواب لسؤال يطرحه السائلون، عن عدم ظهور حوار ما، يملأ الدنيا ويشغل الناس! أو نسأل بدورنا عن أسباب عدم توقف المعنيين عند الشغل العميق على المحتوى، وكذلك ندرة من يقوم بتحليله!
يمكن النظر في البداية إلى ظاهرة “البودكاست”، من زاوية لا تقل أهمية عن الجوع إلى الحوار، هي “الاستقلالية”، وهذه مسألة اتخذت ومازالت أهمية قصوى، بعد سنوات من انطلاق الثورة السورية. إذ تحول الجهد العام للمؤسسات الداعمة، من جهتي الإعلام والثقافة، إلى جهات الإغاثة والتنمية، فأُغلقت عشرات الوسائل الإعلامية التي انطوت في إطار الإعلام البديل، وقلّت مساحات نشر المحتوى المتاحة لدى الإعلاميين.
ولا ننسى أيضاً تَولد مزاج عام يرى أن هناك داعمين للوسائل الإعلامية المعارضة لديهم جداول أعمال معلنة أو خفية، لا تبدو مناسبة للخط الوطني العام المؤيد لآمال وطموحات الثائرين.
وقد تطرف البعض في اتهام جهات ممولة بأنها تخدم النظام الأسدي، مما جعل التعامل معها، عرضة للشكوك، إلى أن يثبت العكس.
ومن الطبيعي أن يسعى إعلاميون خرجوا من العمل المؤسساتي، إلى إنشاء تجاربهم الخاصة، لكنهم سيحاولون تحصيل التمويل من الجمهور ذاته، وهذا ما صار متاحاً هذه الأيام، ومن المتوقع أيضاً أن تجرّ تجربة بدت عليها ملامح النجاح، العشرات من الإعلاميين، لأن يجربوا حظوظهم عبر منصاتهم.
لكن، ما المحتوى المطروح هنا؟ وهل يستطيع -فعلياً- أن يقلب المشهد الإعلامي؟ بحيث يهاجر المشاهد من الوسائل الإعلامية الرسمية، إلى هذه المنصات البديلة؟
يمكن ملاحظة أن غالبية الحوارات المطروحة، تُصنف ضمن حقول الثقافة والفن والإعلام، الأمر الذي يجعلها متكررة ومتوقعة، وهناك انتحاءات خاصة تحاول أن تختلف عن غيرها، فتذهب إلى محاورة الأكاديميين والاقتصاديين والمشتغلين بالفكر والفلسفة، لكنها لم تصل إلى عتبة عالية من الجرأة، لتقدم ما هو غير متوقع، أو لتقارب المسكوت عنه، كما أن غياب المنصة المشتغلة بالسياسة، وبالكوميديا السياسية، يجعلنا كمتابعين نستغرق في التفكير في الأساسيات التي تنطلق منها هذه المشاريع!
فهل قرأ القائمون عليها حاجيات المتلقي، ونمط سلوكه، بعد عقد ونصف من التطورات الصارخة في أدوات التواصل البشري عموماً، المترافقة في الحالة السورية والعربية مع عواصف، وربما أعاصير مجتمعية، أحدثها الربيع العربي والثورات المضادة، لم تهدأ، ولا يبدو أنها ستفعل؟
نجزم بأن العديد ممن يخوضون تجارب رأيناها خلال الفترة السابقة، لم يقوموا بدارسات الجدوى المطلوبة، قبل الشروع في مشاريعهم، ومنها قياس حجم السوق المحتمل، ولم يبنوا تصوراً عن إمكانات المتنافسين فيه.
وندلل على هذا الاعتقاد من خلال النظر في المحتوى المتشابه الذي يقدمونه، وأيضاً عبر التأمل العميق في أسلوبية إنشاء المحتوى، حيث يغلب على آلاف ساعات البث أسلوب اللقاء التلفزيوني أو الإذاعي، من دون تمايز بين هذا وذاك، وهذه وتلك، مع ملاحظة استرخاء المحاورين، وعدم اجتهادهم في تحصيل معلومات تغني الحوار، مما يدفع الضيوف إلى الاسترسال في الذاتيات، التي لا تبدو مثيرة، وبما يجذب المشاهدين، ما يؤدي في المحصلة إلى الاستغراق في ثرثرة مسترخية بلا مخالب أو إثارة!
وفي النهاية يصل الناقد المحترف إلى قناعة، بأن ما يتم ضخه أمام الجمهور، لم يُبن على استراتيجيات مهنية احترافية، بل تم إنشاؤه كعدوى، كالتكاثر الفطري.
هل يؤدي الوصول إلى هذا الاعتقاد إلى تجاهل الجمهور للـ”بودكاستات” وعدم اهتمامه بها؟ الإجابة هي نعم ولا في الوقت ذاته.
في الجزء الأول من الجواب، يمكن القول بأن المتابعين يتجاهلون بشكل لافت الحوارات الثقافية والفنية ذات الطابع النمطي المتكرر، وحتى حين يكون الضيف نجماً متفرداً في عالمه، لن يحصل الحوار على الأرقام المرتجاة في “الريتينغ” (حجم الجمهور المشاهِد)، والتي تجعل المشروع ذا جدوى اقتصادية، ما سيؤدي إلى إغلاقه، أو تباطؤ نموه، وصولاً إلى توقفه عند حد معين، بلا أي تطور.
وبالتأكيد، يمكن للإعلاميين المحترفين تجاوز هذا المطب، من خلال الاشتغال أكثر على الحوارات، والتبحر في حيوات الضيوف، واستخراج الجديد المثير الذي يهم الجمهور منها، وهذه ليست وصفة تخص المشتغلين في حوارات هذه المنصات، بل هي جزء من مقومات الاحترافية في عمل الصحافيين.
أما في الجزء الثاني من الجواب فإن الجمهور سيُقبل بقوة على متابعة هذه التجارب، عندما يشعرُ بأنها باتت تنافس المحطات الرسمية في موادها المقدمة، وفي رفعها لمستوى الجرأة والمغامرة والتجريب في صناعة المحتوى.
غير أن التحدي الأكبر في ما يجب أن يخوضه هؤلاء، يكمن في مقاربة الشؤون السياسية، والالتفات إلى خلفيات الأحداث اليومية. ففي بيئة مضطربة كالواقع السوري، حيث ينتظر الناس الأخبار التي تعزز آمالهم بالحياة الحرة الكريمة، يخرج كثر لقَول كلام خفيف وتحليلات مرسلة عما يشغل الناس، فتتابعهم أعداد كبيرة من السوريين، وتتجاهل كذبهم وادعاءاتهم بسبب حاجتها لمن يلهيها عن واقعها الأليم، فلماذا لا يركز الإعلاميون المهتمون جهودهم في صناعة البدائل؟
المدن