أسامة آغي
تغيّرَ الواقعُ، أي تغيّرت العوامل المؤثرة فيه، وهذا يتضح بشفافية من خلال رؤية التغيرات التي حدثت للصراع في سورية وعليها، ومن خلال أهمية هذا الملف إقليمياً ودولياً، وأثر ذلك على أفق هذا الصراع ومآلاته.
جوهر إحاطة رئيس الائتلاف الوطني السوري أمام الهيئة العامة للائتلاف التي انعقدت منذ عدة أيام تركّز على رؤية المتغيرات الإقليمية والدولية المحيطة بالقضية السورية، وبيّنت نقطة حاسمة يرتكز عليها وجود مؤسسة الائتلاف الوطني السوري، هذه النقطة هي أن “شرعية الائتلاف الوطني السوري أتت من التزامه بثوابت الثورة السورية وجوهر القرارين الدوليين الصادرين عن مجلس الأمن القرار رقم 2118 الصادر عام 2013، والقرار2254 الصادر عام 2015، إضافة إلى بيان جنيف عام 2012.
إن وجود شرعية انتخابية لمؤسسات الثورة السورية، وللمناطق التي تديرها يحتاج إلى توفير بيئة آمنة يتم فيها الانتخاب على كل المستويات، وهذا غير ممكن في ظل استمرار الصراع العسكري ولو بحدوده الدنيا، لذا تبدو مطالبات بعض “الفئات الصغيرة” باختيار بديل ثوري بعيداً عن مؤسسة الائتلاف الوطني التي تحظى باعتراف الأمم المتحدة كممثلٍ وحيد عن قوى الثورة والمعارضة وكأنها مطالبات لا تقرأ الواقع ولا تعترف بموازين القوى فيه.
لا يهمّ حجم الثورية المحمولة في الشعارات والهتافات، بل الذي يهمّ القدرة على تحويلها إلى فعل تاريخي، وهذا لا يمكن حدوثه في ظل الانخراط الإقليمي والدولي المباشر في الصراع السوري. لذا يبدو من الأجدر ان تكون المطالبات متعلقة بتشكيل الإرادة الثورية الواحدة وهذا يحدث مع ازدياد احتضان الحاضنتين الشعبية والثورية لذراع الثورة السياسي “الائتلاف الوطني ومؤسساته المنبثقة عنه”، ومن خلال انتقال غالبية أعضاء وفعاليات الائتلاف الوطني إلى المناطق المحررة في الشمال السوري.
إن تقديم التنازلات السياسية بخصوص عملية الانتقال السياسي في سورية بموجب القرار الدولي 2254 ستكون مقدمة لإجهاض كفاح الشعب السوري عبر ثلاثة عشر عاماً مضت، وهذا الأمر أكّده رئيس الائتلاف الوطني بصورة قطعية، حيث قال في السياق ما معناه: أنه ليس من حقّ الائتلاف التنازل عن حقوق الشعب السوري بما يتعلق بالخلاص من نظام الاستبداد، هذا الخلاص يتمّ عبر عملية سياسية بإشراف الأمم المتحدة على قاعدة القرارات الدولية ذات الصلة بالصراع السوري.
إن إحاطة هادي البحرة أمام الهيئة العامة للائتلاف الوطني أظهرت بصورة عميقة طبيعة المتغيرات التي حدثت في مواقف الدول المنخرطة بالصراع السوري، فالحرب الروسية على أوكرانيا، والاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة وتدميره بعد عملية طوفان الأقصى، أحدثت أولويات إقليمية ودولية جديدة، أثّرت على مستوى الاهتمام الدولي بالقضية السورية.
إن فهم تغيّر مواقف الدول المختلفة من القضية السورية يقف خلفه تغير المصالح وطبيعة الصراعات، وهذا يتطلب من قوى الثورة والمعارضة السورية فهم هذه التغيّرات التي تعبّر عن مصالح الدول المعنية، ويتطلب أيضاً فهم مصالح شعبنا السوري، وعدم التفريط بثوابت هذه المصالح، وفي مقدمتها الانتقال السياسي في البلاد بموجب القرارات الدولية.
إن قوى الثورة السورية معنية باشتقاق أساليب ووسائل كفاحها لتحقيق أهدافها، وتحديداً قدرتها على تحويل هذا الكفاح إلى قوة عمل فعالة، تحشد للضغط على المجتمع الدولي لتنفيذ قراراته، دون الوقوع بالمتاجرة بشعارات ثورية فضفاضة غير قابلة للحياة، والدفع بها على قاعدة كن معي “أنا الثورة” أو أنك تخون الثورة.
إن الدفع بعمل كفاحي خارج فهم التوازنات الدولية وتغيراتها المستمرة لن يخدم سوى بقاء نظام الاستبداد جاثماً على صدر السوريين، فليس بطولةً رفع شعارات الدم والثأر والانتقام، بل البطولة كيف تنتصر قوى الثورة بحشد العالم مع مصالحها بإزالة نظام الاستبداد الأسدي. وكيف يمكن توظيف الرأي العام الدولي لمصلحة تنفيذ القرارات الدولية الخاصة بسورية.
إن من يحاول بناء أطرٍ موازية للائتلاف الوطني السوري إنما يعمل بقصدٍ أو دون قصدٍ على إضعاف وتمزيق إرادة السوريين، وهذا لا يخدم في الحقيقة سوى نظام الاستبداد وحلفه الإقليمي.
إن محاولات إظهار الائتلاف الوطني السوري على أنه لا يمثّل السوريين هو في الحقيقة يخفي مصالح من فشلوا طيلة سنوات الثورة في إدارة الصراع مع نظام الأسد عبر الائتلاف وخارجه، وهم لا يزالون يعيشون في أطرهم الفكرية والأيديولوجية الضيّقة، حيث يمنعهم ذلك من رؤية حركة الواقع وتغيّراته، مما يدفعهم لتخوين ومهاجمة كل من لا يتفق مع هيمنتهم على القرار الثوري السوري.
هذه الرؤية لا تعني ابداً أن برامج عمل الائتلاف الوطني ومؤسساته الأخرى هي صائبة وصحيحة في كل ممارساتها، فبرامج عمله لا تكون فقط بزيادة النشاط الديبلوماسي والسياسي إقليماً ودولياً، بل بتضافر ذلك مع تطوير الوضع الأمني والاقتصادي والسياسي في الشمال السوري، أي العمل على خلق بيئة آمنة حقيقية في هذه المناطق من خلال تثبيت نظام حوكتها وإدارتها اقتصادياً وأمنيّاً بما ينعكس على استقرارها.
هذه الحوكمة تحتاج بصراحة شديدة إلى مساندة فعّالة من الحليف الضامن التركي، فتحقيق الاستقرار في الشمال سيساعد هذا الحليف على وقف تدفق اللاجئين نحوه أو عبر أراضيه إلى أوربا، وسيعمل على تهيئة الظروف لعودة غالبية اللاجئين السوريين إلى هذه المناطق، حيث يتوفر الأمن الحقيقي وفرص العمل وتأمين السكن للعائدين إلى بلدهم في هذه المناطق.
وإن استقرار الشمال السوري سيمنع نهائياً أي محاولات لضرب الأمن القومي التركي، أليس من المنطقي أن يدرك الحليف التركي إن تهديدات ميليشيات PKK التي تنشط عبر ما يسمى قوات سوريا الديمقراطية يتمّ من خلال استقرار الشمال السوري أمنيّاً وعسكرياً واقتصادياً، فيشكّل ذلك الاستقرار قاعدة صدّ لتخريب هذه الميليشيات وعدوانها على الشعبين السوري والتركي؟
إن حديث رئيس الائتلاف الوطني كان منطقياً حيال العودة الطوعية للسوريين من تركيا أو دول الجوار الأخرى، فكيف يعود صاحب العمل أو المنشأة أو الباحث عن فرصة دراسة وعمل وطبابة إلى سورية دون ضمانات أمنية حقيقية وفرص عمل موجودة حياة كريمة؟
إن لجوء السوريين إلى دول الجوار أو أوربا كان هدفه الهرب من القتل بالبراميل ومن الحصار والجوع وانعدام فرص الاستقرار، وكان ببساطة من أجل تأمين العيش بسلام وأمنٍ، وهو حقٌّ نصّت عليه لائحة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تتبناها الأمم المتحدة.
بقي أن نقول إن الحفاظ على ثوابت السوريين عبر ثورتهم يتطلب توسيع قاعدة تمثيل الائتلاف ووضع آلية مرجعية تمنع تقديم أي تنازلات سياسية تخصّ حقوق الشعب السوري في الانتقال السياسي من دولة الاستبداد إلى دولة المواطنة والمؤسسات الديمقراطية.