بينما يمضى التطبيع العربي مع النظام السوري بسلاسة نسبية، إلا أن الوضع يصبح معقدا في كل مرة تعود فيها محادثات التطبيع التركي مع النظام للواجهة. ورغم الوساطات والدعوات المعلنة والمكررة خلال العامين الماضيين على الأقل، ما يزال الأسد، الذي لا يمتلك في الوقت الحالي رفاهية الرفض، يتلزم الوضع الصامت رغم المكاسب المحتملة من هذا التقارب.
من المفهوم أن مسار التقارب “السوري – التركي”، الذي يجري العمل على تطويره منذ تموز 2016، يتم برعاية روسية، لكن اللاعب الحاضر الغائب الذي قلما تم تسليط الضوء عليه في هذه القصة هو إيران ونفوذها الحاسم في دمشق.
التطبيع التركي بعيون إيرانية
رغم أن طهران رهنت مستقبلها الجيوسياسي في سوريا ببقاء الأسد في السلطة، وأنفقت في سبيل ذلك العديد من الاستثمارات الضخمة، وشجعت مؤخراً بحذر على المزيد من التطبيع العربي وتعويم الأسد، إلا أنها تبدو قلقة بشدة من تداعيات حدث مهم ومفصلي كالتقارب التركي، لا سيما وأنه بات من الواضح أكثر من أي وقت مضى أن هذا التقارب لن يمر عبر القنوات الإيرانية أو العراقية حتى.
وفي تصريح للرئيس التركي رجب طيب أردوغان لوكالة الأناضول حول خارطة الطريق السورية الجديدة دعا أردوغان كلّا من الولايات المتحدة وإيران إلى أن تكونا سعيدتين بالتطورات الإيجابية، وتدعما العملية الرامية إلى إنهاء كل المعاناة في سوريا. واعتبر أردوغان أن التنظيمات الإرهابية ستبذل قصارى جهدها لتسميم هذا المسار في سوريا وستخطط لاستفزازات والألاعيب ولكننا ندرك كل ذلك جيداً ومستعدون لمواجهتها، بحسب وصفه.
إن تخوف الإيرانيين من خسارة استراتيجية محتملة في سوريا مع نجاح أولى خطوات التطبيع التركي برعاية روسية، يجب أن يعيد البعض للتفكير بشكل جدي في ميزة إضعاف نفوذ طهران في دمشق، والحيلولة دون التحول الخطير للديموغرافية السورية، الذي يجري على قدم وساق في ظل نظام ضعيف ومرتهن للأجندة العسكرية والاقتصادية الإيرانية.
لقد أثبتت سنوات العقد الماضي، أن إيران غير قادرة على بدء عملية إعادة الإعمار الهائلة لسوريا، وهي مستفيدة فعلياً من بقاء ملايين المشردين السوريين في الخارج والوضع الاقتصادي ما دون خط الموت لمللايين السوريين الآخرين في الداخل لتمرير أجندتها التوسعية وسياستها الناعمة بسهولة وبأقل التكاليف رغماً عن النظام والمجتمع الدولي.
وبغض النظر عن المآلات الأخرى، لكن من المؤكد أن بدء عملية إعادة الإعمار السورية بقيادة تركية وعودة ملايين المهجرين السوريين بضمانات دولية وأممية لن يكون بمثابة أخبار سارة لإيران التي تتوقع أن تحصد من الملف السوري حصة الأسد أو حصة لا تقل عن شريكتها الأخرى روسيا.
التطبيع التركي يضر بالعلاقات الاستراتيجية الإيرانية – السورية
في ملف مسرب وصل لتلفزيون سوريا ينقل تفاصيل لقاء نائب أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الأعلى الإيراني مع نائب وزير الخارجية السوري أيمن سوسيان عام 2023، يظهر مدى التوجس الإيراني من تحرك النظام خارج العباءة الإيرانية، والمخاطر المترتبة على ذلك على النظام السوري.
وفي فقرة المحادثات الأمنية بين أنقرة ودمشق، يبين الملف على أن “الجمهورية الإسلامية الإيرانية سعت منذ بداية الأزمة السورية إلى إشراك دول الجوار في عملية الحوار والتفاهم مع الحكومة السورية، وأكدت باستمرار على مشاركة الدول الثلاث الضامنة لعملية أستانا في أي عملية صنع قرار في الأمور السياسية والأمنية والعسكرية المتعلقة بسوريا”.
ويشير الملف إلى أنه بعد عدة جولات من المحادثات الأمنية بين دمشق وأنقرة، ورغم مستوى التشاور والجهود المبذولة والموافقة الشخصية لبشار الأسد، فإن تركيا جعلت وجودنا (أي إيران) مرهوناً بتمديد المحادثات السياسية، واتخذت سرية محتوياتها مبرراً لمعارضتها، وفقاً للملف.
ويوضح الملف أن إيران لمست تقدماً في المفاوضات واجتماع وزراء الدفاع والوعد بتوسيعها إلى المستويات السياسية بحسب ما وصل لها من “أنباء متداولة”.
وفي الوقت الذي شدد فيه نائب أمين مجلس الأمن القومي الأعلى الإيراني في لقائه مع سوسيان عن “سعادته” برؤية “الأعداء” يقبلون على مضض الحقائق الميدانية ويحاولون فتح طريق العودة بطريقة أو بأخرى، يحذر من أن “البعض” يخطط لتحقيق أهدافه قصيرة ومتوسطة المدى.
لذلك، بحسب الملف، مع التفكير المتبادل والتشاور المستمر، لا ينبغي أن نسمح لهم بمواصلة تحقيق ما لم يحققوه في ساحة المعركة من خلال الساحة السياسية.
ويضيف الملف: “بما أن المبادر الرئيسي للمحادثات الأمنية بين أنقرة ودمشق كان الجمهورية الإسلامية، فإن غياب الجمهورية الإسلامية عن هذه المحادثات لم يكن مقبولاً على الإطلاق من قبلنا”.
ويحذر نائب أمين مجلس الأمن القومي الأعلى الإيراني في اللقاء السري، الذي ينشر تلفزيون سوريا وثائقه باللغة الفارسية، من أنه إذا تم التعامل مع القضايا الأساسية للقضية السورية دون حضورنا، فلن تتضرر الفلسفة الوجودية لعملية أستانا فحسب، بل ستضر هذه القضية بالتعاون الاستراتيجي بين البلدين و”استقرار سوريا”.
ورأى نائب أمين مجلس الأمن القومي الأعلى الإيراني أن تقدم المفاوضات التركية السورية يهدف بالتأكيد إلى ضمان وتعزيز أمن واستقرار سوريا والمنطقة، معتبراً حضور “الجمهورية الإسلامية الإيرانية” في هذه العملية أساسياً وضماناً لتأمين مصالح سوريا ونجاح هذه العملية.
“يجب على الأتراك الاعتراف بأخطائهم السابقة في سوريا”
في تقرير نشرته وكالة أنباء تسنيم الإيرانية الجمعة 12 تموز، زعمت فيها أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، زعيم حزب العدالة والتنمية، لعب كسياسي “دوراً جاداً في تشكيل الأزمة السورية” وجعلها أكثر تعقيداً.
وادعت وكالة أنباء تسنيم أن عودة العلاقات التي يريدها أردوغان في تراجع للموقف التركي ليست بهذه السهولة، لا سيما في ظل وضع لم يعترف فيه شخصياً بأخطاء كبيرة، بحسب زعمها.
وفي ذات المنحى، واظبت وسائل إعلام إيرانية أخرى مختلفة على ترجمة تقارير ومقالات لشخصيات معارضة تركية في أنقرة وإسطنبول، للتأكيد على نفس الاعتقاد الإيراني القائل بارتكاب الرئيس أردوغان وفريقه في سوريا لأخطاء وصفت بأنها لا يمكن إنكارها.
الخناق الإيراني
وكان تلفزيون سوريا قد نشر في أيلول 2023 رسالة سرية سربتها مجموعة إيرانية معارضة مقربة من منظمة مجاهدي خلق الإيرانية، تحذر فيها منظمة استخبارات “الحرس الثوري” الرئيس الإيراني السابق، إبراهيم رئيسي من أن “خصوم إيران الإقليميين، مثل تركيا والإمارات العربية المتحدة”، يحاولون “الحد من نفوذ إيران الاقتصادي في مستقبل سوريا وخلال فترة إعادة إعمار”، مشيرة إلى أن “إهمال فترة إعادة الإعمار السورية يمكن أن يؤثر على إنجازات إيران في العقد الماضي والنفقات التي تكبدتها في هذا المجال”.
ووصفت وثيقة سرية أخرى سربتها المعارضة الإيرانية لتلفزيون سوريا “الموقف المحرج” لرئيس النظام السوري أمام حلفائه الإيرانيين الذين طلبوا في وقت سابق من العام الماضي الانضمام إلى المحادثات الثلاثية مع الأتراك.
وبينت الوثيقة أن هذا الإطار الثلاثي من المحادثات قد يضر بمصالح إيران، داعية إلى تحرك إيراني عاجل أمني ودبلوماسي للانضمام إلى هذه المحادثات.
وفي حين تواصل روسيا وتركيا تأكيدهما على إبقاء هذه المحادثات محصورة بالأطراف الثلاثة بعيداً عن أي وساطات أخرى، بات من الواضح اليوم أن دخول إيران المحادثات الثلاثية والوساطة المزعومة لوزير الخارجية الإيراني السابق، أمير عبد اللهيان، لم تصل لأي نتيجة في أحسن الأحوال أو كانت معطلة في أسوأ الأحوال.
وعليه تلعب إيران دور “اللاعب المخرب” في هذه المعادلة، لا سيما وأنها قامت بإجراء استباقي من النوع التحذيري قبل أيام مع تسارع عجلة التطبيع التركي الأخيرة، ونشرت، على غير عادتها بنود اتفاقية اقتصادية لاسترداد ديونها من النظام السوري بشكل علني تحت ذريعة تقديمه للبرلمان الإيراني لاستكمال الإجراءات القانونية.
ورغم أن بنود الاتفاقية المنشورة لم تأت بأي جديد، لكنها يجب أن تدق ناقوس الإنذار من فعالية العناصر والأدوات الأخرى التي يمكن أن تحركها على الأرض لإحكام قبضتها على الأسد للقبول بالشروط الإيرانية للمحادثات المستقبلية المتصورة من قبلهم.
ضياء قدور – تلفزيون سوريا