خاص – جمال الشوفي
الحرية بوصفها جوهر الانسان ومناط سعادته ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالإنسان وحيثيات وجوده المتسع سواء كانت المتعلقة بأحاسيسه ومشاعره وأحلامه أو ورؤاه وأفكاره وخياراته. فيما أن العمل السياسي المجتمعي يتطلب جملة من الأدوات والإجراءات التي تفترض رؤية المعطيات الواقعية والعمل فيها وإدارتها وفق خطط وأهداف مرحلية ومستقبلية تنتج فعلاً مجتمعياً تفترض الموضوعية. وعلى الرغم من وجود اختلاف بين الحرية الفردية باتساع آفاقها والعمل السياسي العام، لكن الجمع الجدلي بينهما هو تجربة أنتجتها المجتمعات المتمدنة العصرية حين أقرت بالحرية الفردية كحق ممارس بكل أبعاده لكنه مشروط بالقانون العام والهوية العامة التي يساهم الجميع في انتاجها كإرادة عمومية General Well كما حددها روسو.
في سياق الموجة الثانية من الثورة السورية، وفي انتفاضة السويداء التي فاقت المئتي يوم من التظاهر السلمي اليومي، برزت فكرة الجمع الجدلي بين الحرية بكل أبعادها والتغيير السياسي على المستوى السوري بكل تعقيداته وأحماله. تلك التي تجسدت بعمل علني وديمقراطي منطلق من ساحات الكرامة، وعلى قاعدة إرساء التوافقات السياسية والمدنية والشعبية حول استحقاق الهدف العام بالتغيير السياسي ومصلحة الكل السوري. وليس فقط، بل كخلاصة قيمية وفكرية لتجربة عصر الأنوار الأوروبي التي نرنو إليها. الفكرة قامت على أرضية تجاوز معيقات ومطبات الثورة السورية سواء: التنافس السياسي السلبي الأيديولوجي الهدام أو فرض الشرعيات المفردة أو الانجرار للمشاريع الخارجية سياسياً وعسكرياً، وغرضها العمل الوطني التوافقي على تعزيز واستمرار ساحات التظاهر السلمي كرافعة سياسية لأية عملية سياسية وطنية تستهدف التغيير السياسي الجذري، يكون الجميع شركاء فيها تستهدف اسقاط النظام القائم والمستحوذ على سوريا سياسياً ومدنياً واقتصادياً.
رغم أن مدة الأشهر الستة الماضية، ومنها ثلاثة كانت على عقد مؤتمر الحرية والتغيير العلني واجراءه انتخابات حرة وعلنية ليست كافية لتقييم التجربة، لكن المراوحة في المكان وتسارع الاحداث تستلزم التقييم النقدي وبعلنية أيضاً. اذ أن مؤشرات المرحلة تشير للعديد من الإيجابيات والسلبيات، فرغم الاجماع على أحقية التوافق العام المحلي والوطني بين مختلف الفعاليات السياسية والمدنية على ضرورة التعامل مع المعيقات التي تعترض مسيرة التظاهر السلمي واستمراره في ساحات الكرامة وعلى استحقاق الحل السياسي الجذري السوري، لكن السلبيات باتت أكثر وضوحاً ومتجلية بنقاط متعددة:
ظهور النزعات والقرارات الفردية وافتراض أن أي موقع متقدم في جسم الحركة الشعبية يعطي الحق التفرد بقيادتها، وهذا خروج عن التوافق العام وضرورة التشارك في المسؤولية والاستحقاق والدراسة والتقصي قبل القرار كشأن عام.
تزايد حدة الاختلاف بالرأي والتي أدت لتفاقمه محمولاً على شرعية وتضخم القدرة الذاتية.
الشحنات السلبية وردود الفعل النفسية التي تنساق ضمن موجة ثورية متعالية من طفو الشرعيات الثورية وفرض اراداتها على حساب التوافق العام.
الاشاعة الأمنية والتشويه المتعمد والمغرض لإجهاض الحركة الوطنية وشق الصف وخلق مساحات من عدم الثقة والخذلان العام.
في المبدأ، الاختلاف في الآراء والرغبات والطرق والأدوات في أي مجتمع حالة طبيعية، كما وأن تأثر الفرد بالسياق السيكولوجي العام لسيل الجماهير العفوي والمندفع تجعل مساحة الحرية الفردية أكثر طفوًا على المستوى الشعوري، فكيف وإن أضفنا إليها عدم تحقق نتائج ملموسة في الواقع العام الذي يؤدي للخذلان النفسي، وتزايد الإصرار على الآراء المغايرة ورفعها شعوريًا حتى وإن كانت تخرج عن سياق العملية السياسية المفترضة بالتوافق الوطني العام. في مقابل هذا تعمل الماكينة الأمنية على تعزيز هذه التباينات واثارة الاشاعات وافتعال وتغذية الخلافات في جسم الحراك، إضافة لظهور تنافس حاد حول المشروع السياسي وقيادة المرحلة بشكل مفرد وحسب. ونتيجتها الواضحة تعزيز الخلاف بين فكرتي الحرية والتغيير كعمل سياسي وطني. ودلائل هذا العمل واضحة لاصابة حراك الساحة وتظاهراتها السلمية وتوافقاتها العامة بروحها وانسجامها حول الهدف، وبالنتيجة ليس المستهدف فقط تيار بعينه بل الحراك برمته.
إن العمل على إدارة خلاف الرأي وتذليل وتلطيف الآراء والشحنات الشعورية الغاضبة مسؤولية جماعية تستحق المثابرة والاستمرار بحكمة وتعقل، وبذات السياق الحفاظ على محفزات الحرية التي تزداد حمّتها يوماً بعد يوم. وهذا بالضرورة يقود لفعل نقدي لازم:
من المسؤولية العامة تخفيف حدة الآراء الفردية.
تقديم التحليل البناء وفق تحديد السياقات الموضوعية.
إيجاد آليات استيعابية للفجوات الشعورية العالية.
البحث عن آليات التوافق والتكامل في العمل السياسي العام.
تبدو فكرة توماس هوبز هي الأوضح في قراءة المشهد الحالي، اذ تحاول الأفراد والجهات تجربة فكرتها المفردة، وهذا ما يزيد من ازدحام الأفكار والرؤى وعدم قدرتها على الفعل المنسجم، ويبدو أنها لن تتعلم إلا بالتجربة والممارسة وذلك مهما قدم لها الفكر النظري التحذير من أخطائها. فيما أن الإدراك الجمعي العام حول المسؤولية الجماعية والمصلحة العامة هي ما يمكن أن يشكل منعطفاً هاماً امام تراجع هذه التجربة، سواء كانت منتظمة في جهة معينة، أو متسعة على مساحة الحراك برمته، وهذا ما يجب أت يكون واضحاً للجميع؛ اذ لا يمكن لفرد أو جهة معينة أن تتحمل بفكرتها أو طريقتها مسؤولية حلول منفردة في هذا السياق، حتى وإن تمكن من فرض ارادته المفردة مرحلياً، فحتى وإن تمكنت من هذا، لكن السياق المجتمعي العام يتطلب العودة للتوافق الذي يحقق المصلحة العمومية مع احترام كافة الحقوق والحريات الفردية بطريقة تليق بالإنسان أن يكون، وهنا تكمن خلاصة التعاقد المجتمعي كما حققته المجتمعات المتقدمة، ورائزها الأساس التغيير السياسي الذي لا بد منه أولاً.
أن تضع مشروعك وفكرتك وطريقتك تحت علنية النقد الذاتي لا يعني التبرير، ولا الاعتراف بخطئها المطلق، بل هي محاولة لإعادة التقييم والاستماع بحرص من عين أخرى نقدية، ويخاطرني سؤال في هذا السياق: هل يمكن استباق الواقع القائم والمشوب بكل نزعات وفورات الحرية والانعتاق ورفض القيود أياً كانت بفكرة حق الاختلاف ديموقراطياً؟ وكيف يمكن ضبطها قبل وجود قانون عام كما في دول الحداثة؟ وبالضرورة هل يمكن الاستمرار بالتجربة رغم كل معيقاتها؟ أم ثمة منعطف موضوعي قادم تتغير معه الأدوات والطرائق؟ أم لازال من المبكر الحكم على تجربة ثورية تحاول الانتظام وتحقيق نتائج ملموسة في مواجهة كم تعقيدات المشهد السوري محلياً واقليمياً ودولياً؟ ورغم كل هذا، يبقى الاستمرار بالتظاهر السلمي وحمايته من المنزلقات العنفية أو الخذلان والانفلاق رافعة محورية لأي عمل سياسي، مع ضرورة المراجعة النقدية والقراءة المتفحصة للمتغيرات والسياقات وإمكانية تغيير الطرق والأدوات، وهذا عمل يجب أن يستمر ويتابع بحرص ومسؤولية، حتى وإن تأخر زمن تحققه.