المصدر: صحيفة العرب اللندنية-إبراهيم الجبين- نشرت لأول مرة في 12 أكتوبر – تشرين الأول عام 2014
هل اقتربت هذه اللحظة
حين نقرا التعريف الأولي الدارج بين الناس لمفهوم الدولة نراها هكذا “مجموعة من الأفراد يمارسون نشاطهم على إقليم جغرافي محدد ويخضعون لنظام سياسي معين يتولى شؤون الدولة، وتشرف الدولة على أنشطة سياسية واقتصادية واجتماعية تهدف إلى تقدمها وازدهارها وتحسين مستوى حياة الأفراد فيها، وينقسم العالم إلى مجموعة كبيرة من الدول، وإن اختلفت أشكالها وأنظمة الحكم فيها”.
ولا يبدو أن هذا الوصف ينطبق تماماً على الإطار الذي يضم الهوية والمصالح والجغرافيا والتاريخ وغير ذلك من المركبات التي تصنع في النهاية مواطناً لدولة ما، فالشرق ما زال يدور في فلك السؤال عن الدولة ـ الأمة، التي ترمز إلى شعوب تجمعهم اعتبارات مشتركة من أصول وتاريخ مشترك، بينما نعيش عصر الدول التي أصبحت تجسّد مؤسسات الحكم ذات السيادة على أراض محددة وسكان محددين.
فلم يعرف الشرق النموذج المتطور من الدولة، إلا قليلاً، وربما لم يعرفه بعد بشكله القابل للحياة، إذ بعد أن عاشت شعوب الشرق وعلى رأسها الأغلبية العربية كرعايا في ظل أنظمة حكم وراثية بدأت من صدر الإسلام وانتهاء الخلافة الراشدة، ثم تحوّلت إلى إمبراطوريات عائلية على مدى ألف وثلاثمئة عام، انتهت بالحرب العالمية الأولى، وسقوط الإمبراطورية العثمانية، وجدت شعوب الشرق نفسها بمواجهة مباشرة مع سؤال الدولة، وفي الوقت ذاته كان العالم القوي المنتصر، ممثلاً بالغرب الأوروبي لا يرى في هذه الشعوب مستوى معرفياً كافياً لتحقيق تلك الدولة التي يفهمها هو.
الدولة الإلهية ودولة الإنسان
فقد عرف الغرب الدولة وفق نظريات رافقت نشوءها، وهو يصنفها زمنياً على الشكل التالي، النظرية الإلهية: ويعتقد أصحاب هذه النظرية أن الدولة تعود نشأتها من الله، وأن الإنسان ليس عاملا أساسيا في نشأتها وأن الإله هو الذي اختار لها حكاما ليديروا شؤونها وشكلاً ومساراً وأهدافاً، ثم نظرية القوة: وترى أن الدولة نشأت من خلال سيطرة الأقوياء على الضعفاء، إذ أن كثيرا من المجموعات الحاكمة اعتمدت على القوة في الوصول إلى الحكم مستغلة خوف وقلق الأفراد من الحروب، ورغبتهم بالأمن والاستقرار وهي وسيلة في بناء الدولة وقوتها، وهي تتقاطع مع حاكمية المتغلب في الإسلام، ثم النظرية الطبيعية: وهي مبنية على طبيعة الإنسان الاجتماعية وحيث أن الإنسان لا يستطيع العيش منعزلاً عن غيره من الأفراد، فلا بد من أن يتعاونوا من خلال تفاعلاتهم الاجتماعية المختلفة ومن هنا رغبت الجماعات في أن تكون لها قيادة أو سلطة من ثمة دولة ذات سيادة وسلطة، وهي النموذج الملكي والوراثي البسيط، وأخيراً نظرية العقد الاجتماعي: وترى أن أفراد الشعب أجمعوا على قيام الدولة من خلال عقد اتفقت عليه مجموعة الأفراد، مع الحاكمين، حيث يتقبل الشعب حكم الدولة مقابل تلبيتها حاجات الناس الأمنية وتنسيق علاقاتهم مع بعض وقد نادى بهذه النظرية مفكرون وكان على رأسهم جان جاك روسو، وهي دولة الإنسان التي تطورت إلى الدولة الديمقراطية الحالية في المركبات العالمية.
وقد مرّت حتى اليوم أكثر من مئة سنة، أظهر الشرق عدم قدرته على بناء الدولة بمواصفاتها الحديثة، فهو إما يرغب بها دولة دينية أو قومية عرقية متعصبة أو دولة الأمة مترامية الأطراف، ولم يكن ممكناً تثبيت خارطة الشرق التي نتجت بعد سايكس بيكو سازانوف، إلا بحكّام ديكتاتوريين يحكمون بقبضة من حديد، فيعطلون تقدم الشعوب وتطوّر الدول ولكنهم يؤمنون فيها الاستقرار، وهذا كان مناسباً للدول الكبرى صاحبة المصالح في الشرق.
سيحرص على تأمين مياه الشرب بالسيطرة على منابع نهر اليرموك في جنوب غرب سوريا، وتحلّ قضية الجولان، فهي ستكون مفتوحة لمن يرغب بالعمل والحركة ضمن الشروط الجديدة، تحكم تلك المناطق سلطات محلية ذات توجهات مختلفة خاصة بأهاليها، ولبنان المسيحي المعقد بشيعته ودروزه وسنته سيكون ضمن الشرق الأوسط منسجما مع دولة جديدة مكوناتها عرقية دينية مذهبية مختلطة، تشبه إلى حد كبير الاتحاد الأوروبي بصيغته الحالية، فتحكم تلك المناطق بإدارات منتخبة دورها تسيير الأمور الخدمية والصحة والتعليم والتنمية والزراعة والاستثمار، ويدير الأقاليم كلها نظام ديمقراطي معقد، يشرف على تواصل الشرق الأوسط الجديد مع العالم الخارجي سياسياً واقتصادياً وأمنياً.
بشّرت كونداليزا رايس بشرق جديد بأتي بعد فوضى خلاقة، يظهر في منطقة الشرق الأوسط التي بقيت الموضوع المحبذ لمشاريع تحريك الحدود وصناعة المصائر فمنذ سايكس بيكو تبين أن هنالك حاجة ما لإحداث تغيير ما في المفاهيم وعلى الأرض
اختلاف مفهوم الدولة
بنشوء الفيدرالية الجديدة، يتم نزع مخالب شعوب المنطقة، والتخلص النهائي من عصر الأيديولوجيات، وبناء الدولة الخدمية، دولة السوق، المنتج والمستهلك، وفتح الفضاء الإنساني لتغيير قسري ولكن سيكون مطلوباً بإلحاح بعد الدمار الهائل الذي لحق بكل من سوريا والعراق، والذي سيكون الموضوع الرئيسي للاستثمار في إعادة البناء والإعمار، بالإضافة إلى الخلاص النهائي من التهديد المتواصل الذي كانت تتعرض له دول المنطقة الأخرى، وسيتطلب البقاء في هذا البحر من الشعوب المختلطة القضاء التام على مفهوم ديمقراطية الأغلبية، سواء كانت سنية أو شيعية أو مسيحية أو عربية أو كردية أو تركمانية في أي من مساحاتها وأركانه، إعادة رسم الهويات وفقاً لما يحفظ كيانها، ويمنع اضمحلالها، بل يجعل منها كائنات تعيش على مبدأ التجاور والتوازي وليس التصادم والتضاد والتناقض.
وسيصبح الوطن والقومية والأمة والدولة التقليدية من الماضي السحيق، في ظل التنمية والحياة المتطورة التي سيعيشها سكان الشرق الأوسط بعد أن يجري حل قضاياهم المعقدة والمزمنة، فلا حدود تمنع السكان من زيارة أراضيهم القديمة للسياحة، والسياحة الدينية في الأماكن المقدسة المتنازع عليها، ولذلك فلا حاجة لمناقشة حق العودة بالنسبة إلى الفلسطينيين والجولانيين بعدئذ، لتزول الدولة العربية الحالية ويبدأ عصر الدولة الجديدة، الشرق الأوسط الجديد.