أحمد مظهر سعدو-العربي الجديد
تحاول قوى الأمر الواقع في شمال شرقي سورية، من جديد، إعادة إنتاج الواقع الانفصالي لما يصطلحون على تسميته إقليم “روج آفا”، حيث تسابق هذه القوى الزمن، تحت اسم إدارة الحكم الذاتي وإقامة انتخابات “حرّة” مفترضة توطئةً لإقامة الدولة الانفصالية المُبتغاة، واشتغالاً حثيثاً لاستمالة العشائر العربية الموجودة بكثافة في دير الزور والرقّة، والحسكة أيضاً، في محاولة من قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ومجلس سوريا الديمقراطية (مسد) تجاوز ذاك التضادّ والتحاجز والاقتتال الذي نشب قبل ذلك مع بدايات العام الماضي، بين العشائر العربية وقوى الأمر الواقع الكردية المُتحكّمة في تلك المناطق العربية، والمتغوّلة على أهل المنطقة، والناهبة خيراتها، والتي تعمل قوةَ احتلالٍ وقمع واعتقال، ومن ثم فساد وإفساد، لا يقف عند حدّ، وبدعم أميركي من القواعد الموجودة في شمال شرقي سورية.
لكنّ إعلان انتخابات محلّية شاملة لكلّ المواقع والجغرافيا التي تسيطر عليها “قسد” ومنتجاتها وتشكيلاتها وتوابعها، وفي هذه الظروف بالذات، محاولة جديدة لاقتناص الفرص واستثمار انشغال الدول الإقليمية والكُبرى في الحرب العدوانية على قطاع غزّة، والتي يقال موضوعيّاً إنّ لها ما بعدها، وسوف تُؤثّر نتائجها بالضرورة على الواقع السوري برمّته، ليس في مناطق ما يسمى الحكم الذاتي في الشمال الشرقي فقط، بل على مجمل الوجود الاحتلالي العسكري والسياسي الإيراني، والمليشيات التابعة لها في الجغرافيا السورية، وأيضاً، حالة الاحتلال الروسي بكلّيته، ثمّ واقع (ومستقبل) النظام السوري، الذي ما زال يعثر في الأُكم وفي الوهد، بعد أن أوصل سورية إلى حالة الدولة الفاشلة اقتصاديّاً وسياسياً.
ما زال الأميركان يحرصون على عدم إزعاج الدولة التركية الحليفة القويّة في المنطقة، والعضو الأساس لدى حلف الناتو
من يحكمون شمال شرقي سورية، وظناً منهم أنّ الفرصة قد حانت وأصبحت قاب قوسين أو أدنى من التحقّق، وأنّ الظروف الدولية والإقليمية، قد أزفت وأضحت بمثابة بيئة صالحة، فقد راحوا يسارعون إلى إنجاز هذه الانتخابات مدخلاً أكيداً لتطبيق أحلامهم في قيام دولة كردية انفصالية شمال شرقي سورية، والمحاولة من جديد لإنفاذ عملي للمشروع إيّاه، المدعوم أميركيّاً، حيث إنّ وجود “قسد”، ومن بعدها “مسد”، لم يكن ليقوم على الأرض قوةَ أمرٍ واقعٍ كُبرى ومتمكّنة عسكريّاً منذ سنوات لولا الحماية المباشرة الأميركية. وبالطبع، في وجود القواعد الأميركية، والسيطرة على آبار النفط في تلك الجغرافيا، ومن ثمّ، لي عنق وحدة الجغرافيا السورية واستقلاليتها دولةً واحدةً موحّدةً، والعمل على الوصول إلى بناء دولة مقسّمة تقتطع ما تستطيع من سورية، باتجاه الدولة الكردية، التي كانت وما زالت في حماية أميركية، ومن ثم، أن تصمت عنها باقي الدول. لكن، هل كانت هذه السرعة والفرصة مواتية بالفعل لهذه الانتخابات اليوم؟ وهل عرفوا كيف يستغلّون ذلك لمصلحة هذا الكيان الانفصالي المزمع؟… لا يبدو أنهم اختاروا الوقت المناسب، ولا الفرصة المتاحة، بدلالة إعلان تأجيل الانتخابات إلى شهر أغسطس/ آب المُقبل، إذ سبق أن تمّ تحديدها قبل ذلك، أي في 11 يونيو/ حزيران 2024، بعد أن اعترضت عليها الولايات المتّحدة، وقد سارعت إلى الاعتراض على إقامة هذه الانتخابات التمهيدية، التي يراد منها إنجاز المدخل المناسب وتمهيده لإقامة الدولة الكردية.
وإذا كان اعتراض الأميركان ليس نهائيّاً، فإنّ عدم الموافقة الأميركية يأتي من مسألة التوقيت الذي لا يرى فيه الأميركان أنّه قد حان، وهم الذين لم يكونوا في حالة اعتراض أساساً على فكرة تقسيم سورية، ومراكز أبحاثهم، مثل مركز راند وسواه، سبق أن اشتغلوا على قضية تقسيم سورية في أبحاث ودراسات كثيرة، برعاية مباشرة من الإدارات الأميركية المتعاقبة. لكنّ الاعتراض، اليوم، يتّكئ على عدم مواكبة الانتخابات للزمن المناسب، فلم يجد الأميركان أن الوقت قد حان لمثل ذلك، وهم الذين سبق أن اعترضوا على مثل هذا النموذج في قيام الدولة الكردية الانفصالية، عندما حاول مسعود البارزاني في العراق إعلان قيام الدولة الكردية شمال العراق ومنعته الإدارة الأميركية في حينها. فالأميركان ما زالوا يحرصون على عدم إزعاج الدولة التركية الحليفة القويّة في المنطقة، والعضو الأساس لدى حلف الناتو، في لحظة فارقة يحتاج فيها الغرب بكلّيته، ومنه أميركا بالضرورة، إلى التركيز على حربَين مهمتَين في الإقليم، هما الحرب الروسية في أوكرانيا وتغيراتها وإشكالاتها، وكذلك، الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، واحتمالات اتساعها، وانعكاساتها. ولذلك، أيضاً، تداعياته الآنية والمستقبلية، إذ لا يريدها الأميركان في اللحظة التاريخية هذه.
ولعلّ الموقف التركي الرافض إجراء انتخابات في الشمال الشرقي، والولوج بعدها في دينامية إقامة الدولة الكردية المُستقلّة، هو ما يجعل احتمالات نجاح هذه الانتخابات أكثر صعوبة، إذ تعتبر تركيا أنّ قيام دولة كردية انفصالية تقودها منظّمة إرهابية، هي حزب العمّال الكردستاني، يشكّل خطراً كبيراً على بنية الأمن القومي التركي، ويهدّد الاستقرار جنوب تركيا. إذ سارع رئيس الحركة القومية التركية دولت بهجلي، وهو حليف الرئيس رجب طيّب أردوغان، في الدعوة إلى الانقضاض على هذه الدويلة قبل أن تنشأ، حتّى لو كان الأمر يحتاج إلى التطبيع والتحالف مع بشّار الأسد، إن كان لا بدّ من ذلك، لمنع قيام أيّ دولة كردية قد تهدّد أمن تركيا. ولعلّ هذا الخيار ما زال قائماً، وقد يكون أحد الأسباب المباشرة التي جعلت الإدارة الأميركية غير راضية عن إقامة الانتخابات التي قد تفضي إلى دولة انفصالية، ومن الممكن أن يكون هذا التهديد قد أسهم في عملية تأجيل الانتخابات إلى أغسطس المُقبل.
الانتخابات، حتّى لو تمت، لن يكتب لها النجاح المستقبلي ولن تكون مقبولة من العرب في الشمال الشرقي، ولا من الدول الغربية أو من تركيا
يضاف إلى ذلك أنّ الهيمنة الكردية (القسدية) إن صحّ التعبير، في مناطق جغرافية واسعة شمال شرقي سورية، وتململ العشائر العربية من أن تصبح قوى الأمر الواقع الكردية حاكماً أبديّاً وفعليّاً، يجعل من إمكانية قيامها أمراً ما زال صعباً، ولعلّ الأصعب منه هو الاعتراف به دوليّاً وإقليميّاً. كما أنّ الحرب، التي قامت العام الماضي بين العشائر العربية و”قسد” وتوابعها، ما زالت تئدّ تحت الرماد، وهي مهيأة للاندلاع مرة أخرى، عندما يشعر العرب، وهم الأكثرية شمال شرقي سورية، بالخطر الكردي (من جبل قنديل) يهدّد أمنهم ووجودهم. من هنا، هذه الانتخابات التي كانت مزمعة في يونيو ثمّ جرى تأجيلها إلى أغسطس، حتّى لو تمت، لن يكتب لها النجاح المستقبلي، ولن تكون مقبولة من العرب في الشمال الشرقي، ولا من الدول الغربية أو من تركيا. وبالضرورة، ستقف كلّ قوى المعارضة السورية، في مواجهتها بكلّ تلاوين الطيف السياسي والعسكري والإثني، علاوة على اعتراض كثير من القوى الكردية المنضوية في أتون المعارضة السورية، التي لا توافق، ولن توافق، على الانفصال عن سورية الأمّ، ولا تدفع أبداً نحو تقسيم سورية.