إبراهيم الجبين
لايزال النموذجان التركي الذي نشهد عرضاً واسعاً له هذه الأيام، واللبناني (والعراقي المستنسخ عنه) الذي وصل إلى الارتطام بالحائط، يمثلان أمام ناظري مئات الملايين في الشرق الأوسط والعالم العربي ومن بينهم السوريون، الأول استمد القالب الغربي من الديمقراطية، على الرغم من خصوصية تركيا كدولة إسلامية لم تنج من إرث ضخم جلبه لها تاريخها وموقعها الجغرافي، فعصفت بها الانقلابات وتناهبتها سطوة الجيش وما سوف تعرف بـ“العلمانية الشرسة“ التي جسدتها الأتاتوركية، غير أنها في نهاية المطاف استقرت على الديمقراطية الغربية من جديد.
أما النموذج الثاني، في لبنان، فلم تشأ شروطه التاريخية أيضاً أن تدعه وشأنه، ومن فكرة ”استشراقية“ نظرت إلى ”جبل لبنان“ كمحمية مسيحية اتخذت شكل الدولة، لتقوم على مفهوم مختلف تماما عن النموذج الديمقراطي الذي استنه الغرب لدوله وشعوبه؛ ”الديمقراطية التوافقية“ Consensus democracy.
ولكن ما الذي تعنيه هذه الديمقراطية ”المفصّلة“ لشعوب الشرق الأوسط، وهي التي تتأسس على أفكار غير ديمقراطية أصلاً، تتناقض معها وتقوّضها من داخلها كلما حاول مشغّلوها تفعيلها؟
اللعبة الديمقراطية تدور حول فكرة مركزية لا يمكن لها من دونها مواصلة الطريق، وهي ”المساواة“، وتعني في ما تعنيه حقوقاً وواجبات متماثلة لكافة المشاركين في اللعبة (المواطنين)، وإذا ما تم الإخلال في هذه الركيزة سينهار نظام اللعبة الديمقراطية على الفور، حينها سيتساءل الجميع؛ لماذا حدث هذا؟ وما الذي يمنع من ”جمع الكلمة وتوحيدها“ وما الذي يعرقل العمل المشترك؟
تفتقر ”الديمقراطية التوافقية“ لجوهر المساواة، وهي تصلح للدول الملكية الدستورية لتبرير وجود حالة ”شاذة“ يتمتع بها الملك والأسرة الحاكمة ومن عرفوا باسم ”النبلاء“ من حاشية البلاط بامتيازات خاصة، تلك الامتيازات متأتية مباشرة أن من كون الملك ليس متساوياً في الحقوق والواجبات مع عموم الناس، وذلك بفضل الدماء التي تسري في عروقه، أي السلالة التي أمسكت بالسلطة وحافظت عليها عبر ”التوريث“.
المفارقة في الحالة اللبنانية أنه لا وجود لـ ”ملك“، بل مجموعات سكانية وجدها الاستشراق الغربي تحمل اختلافات بين بعضها البعض، تجعل من المستحيل، حسب رؤيته، أن تطّبق عليها ”المساواة“، فأنشأ المحاصصة وتقاسم الدولة بين مكونات المجتمع.
الاستشراق الغربي ذاته هو من أنفذ مفهوم ”القناصلية“، وهي كلمة تعود إلى القرن التاسع عشر، حين كان القناصل الأوروبيون يحمون بعض المكونات الطائفية في بلاد الشام، ويتدخلون بالضغط على السلطان العثماني الذي كانت تلك الرقعة الجغرافية تتبع له. والحماية القنصلية كانت كفيلة بتعزيز فكرة حماية الأقليات السكانية، ومع الوقت ترسّخ أن هذه الأقليات لا يمكنها العيش من دون حماية عن بُعد.
وحتى حين جاء الغرب بنفسه إلى الشرق الأوسط، في الحقبة الكولنيالية، وانتفى سب الحماية عن بُعد، لم يبطل العمل بتلك الآلية، بل اشتغل على تثبيتها في الدستور اللبناني، كبديل عن ”القناصلية“، ولك يجد سوى الكوتا التي تخصص لهذه الأقلية أو تلك، لتمكنها من تمثيل نفسها في ديمقراطية مبتكرة.
مرت عقود طويلة على خروج الجيوش الاستعمارية من المنطقة، إلا أن إرث تلك المرحلة لم يزل متجذراً، رغم محاولات تأسيس الدولة العربية الحديثة التي يعرف الجميع إلى أين وصلت اليوم على الأقل في واحدة من أبرز مظاهرها جسدتها الحرب الأهلية اللبنانية بين المكونات وكل ما شابها ومن شارك فيها.
وبزلزال سقوط بغداد عام 2003 وعودة الجيوش الاستعمارية الأجنبي (بشكلها التقليدي) من خلال قرار الغزو والاحتلال، عادت الديمقراطية التوافقية مجدداً، بمحاصصة أكثر حدّة فرزت المجتمع العراقي في المؤسسات وكأنها تقرأ في ”كاتالوغ“ لبناني بتمام معاييره الاستشراقية، ومنحت هذا المقعد للشيعة وذاك للسنة وآخر للأكراد وغيره للمسيحيين.
كيف انعكس هذا على الحالة السورية؟ سؤال تجيب عنه مسيرة المعارضة السورية التي رفعت شعار الانتفاضة الشعبية الأكثر شهرة ”الشعب السوري واحد“.
في الواقع لم يكن الشعب السوري واحداً في نظر من دعموا ورعوا ما صارت ”ثورة سورية كبرى“، ومرة جديدة رجع الداعمون إلى أوراق الاستشراق العتيقة الصفراء التي علاها الغبار، ليطالبوا المعارضة السورية بـشيء آخر أكثر إقناعاً، بدلاً من حكاية الشعب الواحد التي لم يصدّقها الغرب ولا يريد أن يؤمن بها ولا يتخيّل أن هؤلاء الذين يعيشون في العالم العربي يمكن أن يكونوا في مصاف مواطنيه لناحية الوعي والإدراك وتحمّل مسؤولية الحاكم والمحكوم، وسرعان ما انعكست تلك الفكرة على مطالبة المعارضين السوريين لنظام بشار الأسد بأن تتوحّد وتجتمع على كيان مشترك وتمثيل يشكل عنواناً لهم جميعاً.
لا بأس. لكن كيف سيتم تشكيل ذلك العنوان والجسم الموحّد؟ ليس لدى الداعمين سوى جواب وحيد ”الديمقراطية التوافقية“، وأخذت تنشأ هياكل وأجسام سياسية لا عد ولا حصر لها على هذا الأساس، حصة للتيار الفلاني وحصة للتيار العلاني، وحصة للمسلمين السنة، وحصة للدروز وأخرى للعلويين وأخرى للأكراد والتركمان، وكل طرف من هؤلاء لديه من يحميه ويدعم وجوده، في مشهدية تعيد إنتاج الحالة القناصلية من جديد وبامتياز.
فانطلت ”خديعة“ على السوريين، وباتوا يرددون ذات المطالب التي صدع الداعمون به رؤوسهم، توحيد الكلمة وجمع الأطراف المتفرقة في تحالفات وائتلافات وهيئات، وسوف لن يتوقفوا لحظة واحدة للتفكير قبل الطرح الآلي للديمقراطية التوافقية لبناء تلك الكيانات.
ينشأ الخلل في العمل السوري المشترك من بُنيته ذاتها، ومن كيفية النظر إلى اللبنات التي سوف يُشيّد بها، ومن فهم المشتغلين من أجل التوصل إليه لمعنى وجودهم فيهم أساساً، ومن بعد يصبغ ذلك كله تعاطيهم مع كافة الظواهر التي يواجهونها، سواء في مواضيع الحوار بين السوريين أنفسهم، أو مع الآخر غير السوري، بينما هم يهدفون إلى تحقيق ما يستحيل تحقيقه بمثل هذه الأدوات ”سورية ديمقراطية“!