د.يحيى العريضي
أهلي السّوريّين الكرام؛ انتشرت مؤخراً العديد من البيانات بشأن تجدّد انتفاضة السّوريّين في الجنوب.
إن لغة خطاب بعض البيانات الصّادرة مؤخراً ليست على مستوى سقف الشّارع في السّويداء، ولا هي على مستوى مآلات ما بعد “حرب غزة”، ولا على مستوى قراءة شاملة للواقع منذ عام 2011 وصولاً إلى اليوم.
نعلم أنا النّظام الإيراني وأداته في دمشق يريد الاستثمار على السّاحة السّوريّة في تبنّي القضيّة الفلسطينية ورقةً تخدم مشروعه التّوسّعي في المنطقة، ويريد لأحداث غزة أن تكون مبرّراً لإسكات الصوت المنادي بتنفيذ القرار الأممي 2254 وإسقاط النظام، وخطف شعلة القضيّة الوطنيّة من المنتفضين زوراً. و بناءً عليه دأب النّظام على التزام الصمت ليصبح “الأسد الأخرس” حين يتعلّق الأمر بالقضية الفلسطينيّة أو قضية تحرّر الشّعب السّوري، وهما صنوان وربما توأمان في مسار النّضال السّلمي لأجل إحقاق شرعة حقوق الإنسان في الحرية والكرامة.
نعلم أيضاً أن نظام بشار الأسد لا ينصت لما يجري في الجنوب السّوري من حراك سلمي ولا يردُّ على أي قصف إسرائيلي – وقد تكرّر على مطاري دمشق وحلب مؤخراً – بل تقصف قوات الأسد وحليفيه الرّوسي والإيراني المدنيّين في الشّمال السّوري ويستمرُّ في اعتقال عشرات الآلاف من زهرة شبابنا السّوريّين في معتقلاته، ومن أشهرها معتقل “فرع فلسطين”.
في هذا المفصل بالذات تظهر بيانات في توقيت مفاجئ، و حراك السويداء في ذروة قوته؛ بينما النظام الوظيفي التخادمي مع إسرائيل وغيرها من القوى الإقليمية والدولية ذليل ينتظر مصيره على أيدي مشغّليه الذين خذلهم. فهو بالحد الأدنى لن يخرج بأقل من عقوبات مستدامة، ونهايةٍ للتطبيع معه؛ والروس لن يحتملوه؛ ليبقى فقط أداة تافهة بيد ايران التي بدورها تنتظر مصيرها.
أهلي الكرام.
إن تجدّد انتفاضتكم المباركة اجتاز حتّى الآن الامتحانات الصّعبة التي فرضها في طريقكم الاحتلال الإيراني لسوريا، وقد أبهرتمونا برجاحة موقفكم المستند إلى مبادئ حقوق الإنسان، ومثال ذلك كان حين اتفقت عدد من الوفود المشاركة في مظاهرات ساحة الكرامة على الدخول دون أغاني و”جوفيات” والوقوف دقيقة صمت و رفع لافتات تدين أعمال النظام المجرمة تجاه ما حصل في الكلية الحربية، بحق المدنيّين منهم، و ريفي إدلب وحلب، ولا مبرّر لأي بيان في خفض سقف صوتكم وتجنّب
مجرّد التّضامن مع المدنيّين في الشّمال السّوري. ومن هنا ألا يبدو متناقضاً ما تورده بعض البيانات من مطالبةبـ”الإصلاح” في جزء من الوطن، مع وجود أجزاء أخرى من الوطن تحترق تحت مدافع النظام؟
أهلي الكرام، كما تعلمون، لا يتوانى نظام بشار الأسد عن قصف المناطق السّكنية في أكثر من واحد وثلاثين مدينة وبلدة وقرية بمحافظة إدلب، خلال ساعات فقط، مدّعياً “الانتقام لمن كان يحضر حفلة تخريج ضباط في الكليّة الحربية.” يسعى النّظام من خلال هذه الفتنة أن يضع دماء الشّهداء من مدنيّي إدلب في رقبة المكلومين من العمل الإجرامي “مجهول الهويّة” الذي استهدف الكليّة الحربيّة في حمص. وهذا سببٌ كافٍ لاستجابة أهلكم في السّاحل وحماة وحمص والجزيرة لندائكم للعمل سويّة على # محاسبة_الأسد ، الذي دأب تاريخيّاً على رمي الفتنة بين السّوريين الواقعين تحت سلطته وبين السّوريين في المناطق الثّائرة ضد إجرامه.
أهلي الكرام، إن أكثر ما يحتاجه المدنيّون في إدلب تحت قصف نظام الأسد، وفي غزّة، وفي كلّ مكان في الشّرق الأوسط بعد ما جرى هو “وقف فوري لإطلاق النار”. وقد رأى كل من تابع رسالتكم من ساحة الكرامة لافتات (STOP WAR ) وغيرها من الدّعوات إلى السّلام، بينما النّظام يحشد ويحرّض الناس لإشعال الحرائق في المنطقة، وتعويم منطق الحروب، وهو أخرس صامت. أمّا أنتم فقد أدركتم أن كلّ من يشجّع على التّصعيد العسكري لا يبالي بالمدنيين، بل يخدم التّطرف الإسرائيلي مع نتنياهو، والتّطرف الإيراني مع خامنئي.
أهلي الكرام، إن الحراك لأجل سوريا اليوم يرتكز على رصيد تاريخي بناه ثوار 2011 ، وكلنا مدينون لمن استشهد أو لا يزال في المعتقلات بالحفاظ على ما أرادوه وضحّوا من أجله. وعليه فإن إصدار البيانات التي يكتنف مفرداتها ومعانيها “الغموض” يلزمه التّأنّي كي لا يُفهمَ بغير حسن النّوايا، أو يُعدَّ خروجاً على الانسجام مع صوت الحراك السّوري. إن قول كلمة الحق على المحك وجهاً لوجه والموت حاضر اختبره كثر من السّوريّين ودفعوا ثمن كلمة الحق شهداء ومعتقلين ومهجرين بيد أسوأالمجرمين
من إيران بقيادة خامنئي وكثر سواه. ومعذور من لا يستطيع حمل عبء قولها ودفع ثمنها إن أجبرته الظروف دون أن يسحب غيره إلى انتظار “مكرمات إصلاحيّة” من نظام بشار الأسد.
أهلي الكرام، أنا ومثلي كثر من السّوريّين المهجّرين خارج البلاد، لا نطالبكم بما لا نحتمل من المخاطرة بالكرامة، وإنّما نتشارك معكم الموقف في بذل كل ما يقتضيه استمرار حراكنا واضحِ المعالم والمقاصد في تنفيذ القرار الأممي 2254 ، وإسقاط النّظام لأجل سوريا الوطن حيث تحفظ كرامة وحريّة الناس وفق شرعة حقوق الإنسان، مع حرصنا الشّديد على أمانكم وحريّة خياراتكم التي نحترم. ولذلك نجدّد دعوة الهيئة الرّوحيّة لطائفة المسلمين الموحّدين في سوريا، كما فعلنا وكثر مثلنا منذ 2011، لتوخّي الوضوح في بياناتها وموقفها، حفاظاً على وحدة السّوريّين في السّويداء وعلى امتداد ساحة الوطن في مواجهة النّظام الفاشل، وضماناً لأمان أهل الحراك في وحدتهم وعدم انكشاف الغطاء الاجتماعي عنهم، فيدفعوا ثمن مواقفهم وحدهم. وفي حال تغيّر الحال يترك أفراد الحراك لمصير يقرّره النّظام وفق اتهاماته الزائفة لهم ومنها العمالة والتخريب وغيرهما من التهم الباطلة؛ ومعاذ لله أن نقبل أو تقبلوا بحدوث شيء من ذلك.
أهلي الكرام؛أوجّه كلماتي هذه على نحو علني حرصاً على الشّفافية التي أبديتم الحرص عليها، ونظراً لانقطاع سبل التواصل المباشر بيننا بسبب الظّروف، وتأكيداً على وضوح الموقف العلني كما أعلنتم خلال الشهرين الأخيرين. وإذ أقدّم حسن النّوايا خلفيّة مبدئيّة للمواقف الطيبة، ولا ألقي بالّلائمة على اجتهاد يحمل الخطأ والصّواب من الذين ساهموا بصياغة بعض البيانات، فإنّني أؤكد لكم أن “الغموض” قد يؤدي لانقسام في السّاحة، وخاصة اذا عمد النّظام إلى الاستجابة لبعض “المطالب البسيطة” متجاوزاً مطالب الشّعب السّوري المحقّة؛ ومستغلّاً ما ورد في بعض البيانات لتغطية هذا الانقسام. وأصدقكم القول إن لغة بعض البيانات تنقل حراك السويداء من الزخم الوطني لتضعها في مربع المطالبة بحل محلّي بعيداً عن مجمل القضية السورية ، كما قد يحرم حراك السّويداء وسائر الجنوب وعشائره ومكوّناته الاجتماعية والسياسية من شبه الإجماع الذي نالته، لتتقزّم المطالب الشّعبيّية المشروعة إلى المعيشيّة منها دون المسبّب لأزمتها، ألا وهو النظام في دمشق.
أهلي الكرام إن النظام هو “آل الأسد” نفسهم؛ وبالأصل لم يستجب هذا النظام لحراك شعب نزل إلى الساحات عام 2011 في كل المدن، ولكن ما اختلف اليوم، بعد اثني عشر عاماً من الثّورة وتغيّر الظروف الإقليميّة والدّوليّة، أن النّظام في حالة مزرية؛وقد تبع النّظام إيران في عدم الاستجابة للـ “مبادرة العربيّة” أو أي مبادرة لحلٍّ سياسي؛ وبذلك قد يترك عدم وضوح الموقف الباب موارباً لاحتمال إعادة تأهيل الأسد، إذا قدم إصلاحات شكليّة مخادعة للالتفاف والتهدئة مؤقّتاً.
أهلي الكرام؛ بعد شهور الحراك، لا أدري جدوى طرح الإصلاح، و خاصّة أن السويداء تلقت الرّد بحملة تخوين ولا مبالاة؟ نظام ليس في أدبياته ولا في تركيبته الإقدام على أي “إصلاح”.
أهلي الكرام،أي ظرف، حتى وإن كان “مؤامرة” كما يسمّيها، يضاف إلى ذلك فشل نظام بشار الأسد في خدمة مصالح أيّ قوّة دولية، حليفة كانت كإيران وروسيا التين اضطرّتا للحضور بنفسيهما كقوّتي احتلال لحماية مصالحهما، كما فشل النّظام في التّعاون مع القوى الدولية الأخرى مثل تركيا ومشكلتها مع الأكراد، والعرب مثال آخر في مشكلتهم مع إنتاج النظام للمخدّرات وتهريبها إليهم والمساهمة في اختلال الأمن الإقليمي، بل وحتى قوى أخرى يروَّج أنها ضدّه كالولايات المتحدة الأميركية وحلفائها؛ وقد كان على مرّ العقود يقدّم لها خدمات “الإطفائي” في المعارك ضد م تسميه “الإرهاب”. وبذلك فإن المفارقة الحاضرة اليوم أن نظام بشار الأسد الفاشل هو المسؤول عن فرض اتجاه إجباري وحيد على الشارع السوري للاستمرار في انتفاضته سعياً إلى إسقاط بشار الأسد الفاشل وعصابته.
أهلي الكرام، نهايةً، إن متغيراتٍ استراتيجيةً كبرى تجري حاليّاً في المنطقة، وبعد نحو ستين سنة أتى تجدّد الحراك الأخير قبيل إعلان هذه المتغيّرات عن نفسها، ولذلك فإنه أقرب إلى “الحرام” أن تضيع الفرصة بنتيجة أقل من إزاحة كليّة لهذا النظام وانتصارٍ للقضيّة السّوريّة؛ والمطبّات المتعدّدة التي وضعتها إيران في وجه استمرار الحراك تؤكّد أن هناك زخماً وجدية ً في التّعاطي مع الوضع في بلادنا. إنه أمرٌ من الصّعوبة بمكان أن يتكرّر، فصعوبته من صعوبة إعادة حركة التّاريخ إلى الوراء. إن النّظام ذاته في حالة سكون وكمون بانتظار ما ستنجلي عنه الأمور في غزّة وما بعدها، ويتحيّن الفرصة الضّئيلة في أن يُجدَّد تعاقده الوظيفي التّخادمي الذي بموجبه بقي رازحاً على صدورنا، وإلّا سيُجرَف. أمّا موقف السّوريّين اليوم فلم يعد يتطلّب الخوض في التّعقيدات أو الدّماء، وإنّما الانسجام مع مسار القدر الأقوى من كلّ مكر وتدبير، واستمرار حراك ساحة الكرامة وكلّ ما يعزّز موقف من صاحوا: “صاح الصّايح وطبّ الأسد خوف”.