د يحيى العريضي
تكاد أسئلة من قبيل (ماذا بعد تجدّد الحراك السوري؟)، (السويداء إلى أين؟)، أن تكون الأكثر حضورا اليوم على الساحة السورية.
لقد قال الشارع كلمته، ولكن نظام بشار الأسد لا يزال حتى اللحظة يكتفي بإدارة أذن صمّاء للمشهد في العلن. وبما أن تحرّك الشارع باتت نسبة لا يستهان بها من السوريين تدعوه بـ “الموجة الثانية من الثورة السورية” المدفوعة بفشل النظام في التحرك نحو أي حل لمرحلة ما بعد حربه على الشعب السوري، فإن الأمور ستكون متروكة لمنطق ردّ الفعل في حال لم يبادر الشارع نفسه إلى البناء على إعلانه الطلاق البائن مع بقاء الأسد وإمكانية استمرار المماطلة بتنفيذ القرار الدولي 2254 الذي يضمن الانتقال السياسي وإطلاق سراح المعتقلين تعسفيا وغيره من المسارات التي تضمن فك الاستعصاء وعودة البلاد إلى سكة الحياة.
بالنسبة لمبادرة الشارع السوري إلى البناء على ما حقّقه حتى اللحظة فالأمر متروكٌ لهم، خاصة وأن الفاعلين في هذا الشارع أبهروا الجميع في تجديد تأكيد أحقية السوريين في بناء ديمقراطيتهم التي تضمن حقوق الإنسان لكل المواطنين السوريين.
أما من ناحية النظام فصمت مريب لا يزال يطغى على موقفه، باستثناء بعض الحشرجات من دمية هنا و بوق هناك ممن يكلفهم عادة بمهام الفتنة والتلفيق الجبان.
أما ما يُنتظر من النظام لاحقا بعد فترة المراقبة من خلف أسوار فروعه الأمنية الموجودة على بعد أمتار من مظاهرات ساحة الكرامة في السويداء، فهو معروف، مراقبة قد تكون من باب اختبار التجربة بتأنٍ يتيح التحضّر لاحتمالات انفجار التمرّد في بيئته الحاضنة الأساسية كما يرى هو، ألا وهي الساحل السوري. إذ لابد أنه يعدّ حراك السويداء تجربة لتمرّد السجناء من منظوره، وقد يستفيد من اختبار وسائله المتاحة في احتوائه لاحقا لمواجهة تحرك في الساحل لم يعد من المضمون قمعه في مهده بعد أن بصقته مناطق، كان يظن أنها استكانت لسطوته، إن كان في الجنوب الحوراني (سهل وجبل) عموماً، ومن يدري أين قد يتجدد الحراك في المدن الكبرى دمشق وحلب وحمص. حمص التي ارتكب بحقها جريمة إبادة جماعية ورحّل معظم أهلها ليضمن صمت من تبقى، ولكنهم ليسوا كما يظنهم (مجتمعه المتجانس)، فهم على الاقل يشبهون شباب سورية في العام 2010 حين كان يدّعي بغرور غبي أن لا إمكانية لثورتهم لكرامتهم فصفعوه وعمّدوا حمص عاصمة للثورة السورية المباركة.
وليس أمام النظام اليوم سوى أن يراهن على تفسخ الحالة الثورية في السويداء بإهمالها وحصارها الصامت بتقتير استحقاقاتها المعيشية المُلزمة لـ”الدولة” بتخفيض حصتها من المحروقات والطحين وغيرهما، مع تواجد خلايا صغيرة كانت أم كبيرة متواطئة معه أم عميلة، كمن يعزل النار بحرام مبلول يمنع الاوكسجين عنها ليخنقها ويخمدها، أو أن يعمد إلى وسائله الخاصة في طعن السويداء، وهو لم يعدم بعد الوسيلة الرخيصة غير المكلفة بتحريك المخربين واتخاذ دور الإطفائي، بل هو احترف هذا الدور محليا وإقليميا على مدى عقود.
أما مبادرة النظام المُتوَقّعة لخلط الأوراق محليا وبالتالي التشويش على مشهدية الحراك، وقد بدأت تتشكل في العيون الإقليمية وحتى الدولية بشكل فعّال، فهي أن يعتمد مبدأ “الهروب إلى الأمام”، وهو مبدأ يتسق مع عجزه وجُبنه. فقد تداعت إلى مسامعي إشاعات، قد يكون النظام تعمّد إطلاقها كتسريبات من دائرته الضيقة.
خطط الأسد للتعامل مع السويداء
إن الخطة الأولى (أ) للنظام في التعامل مع حراك السويداء تشبه وتتقاطع مع ما ذكرته في مقالي حتى الآن من الاستثمار في شقاق ضمن البيئة الحاضنة للحراك، شقاق يتقدم فيه القطاع المسلّح في السويداء إلى واجهة المشهد على حساب القطاع المدني المحرّك للتظاهر السلمي، والمبرّر هو احتكاكات أمنية بين جزء من العناصر الموالية (الحزب الحاكم وبعض الموظفين والمرتبطين بحكم التورط لسنوات في منظومة القمع والفساد) وبين أطراف أخرى رافضة للنظام ولكنها تختلف في خلفية مواقفها، وبالنتيجة يأخذ النظام المشهد بمجمله إلى دائرة العنف التي يفضلها.
ولكن الخطة (ب)، بحسب الإشاعة المتعمّدة، لا تزال قيد الدراسة والتمحيص الأمني بالدرجة الأولى، وهي تتطور باتجاه مشهد يشبه زيارة بشار الأسد إلى السويداء في مرحلة ما سابقة.
هذه الإشاعة لا تفسير لها سوى أنها محاولة “لبث الوهن في نفسية المجتمع المحلي”، وهي مصطلحات من قاموس النظام الشهير.
كما أن إقدام النظام في مرحلة لاحقة على خطة الهروب الى الأمام لن يأتي إلا في حال يأسه من إخماد نار الحراك بحرام مبلول كما ذكرنا سابقا.
ويتطلب تنفيذ هذا السيناريو، الذي يبدو خياليا، البناء على رهان خاطئ قد تُقدِم بعض العائلات الكبيرة عليه، بالإضافة إلى الجزء الموالي له من الهيئة الروحية الحالية، وما أمكن من حشد الناس الذين قد يُفلح في إعادتهم إلى دوائر الخوف من الفوضى وغيره، ولكنني استبعد امتلاك الشجاعة لفعل ذلك. وهنا قد تكون أسماء الأسد هي الخيار الأقرب للاضطلاع بالمهمة، إمعانا في تسيّدها لحركة ما تبقى من النظام المتهالك تحت مطرقة ضربات حلفائه وسندان الشعب السوري الحُر.
هذا الاحتمال، وإن كان يبدو خياليا اليوم، إلا أن النظام لا بد أنه يعمل جاهدا بوسائله الرخيصة للوصول إلى ظرف يتيح المجال لهكذا مغامرة؛ كيف لا، وأن حضور أسماء إلى السويداء بأي شكل أو تمثيلية سيعني تحدّي الحضور النسائي المميّز في ساحة الكرامة، وقد انتقل الى الواجهة في وسائل إعلام غربية، كيف لا وأسماء الأخرس الأسد كانت ولا تزال “زهرة الصحراء” السّامّة، حيث رأيناها تزور ضحايا حرب النظام على الشعب السوري، ورأسمالها صندوق برتقال وما شابه.
وللتمهيد لهكذا خطوة، قد تُكلف شخصية درزية لبنانية غير محبوبة في الجبل بزيارة السويداء في اختبار تمهيدي يفيد النظام إن هو نجح تمهيدا لخطوته التالية، وكذلك يفيد النظام إن فشل واستفز ردود فعل غير محسوبة (لا سمح الله)، إذ سيكون ذلك فتنةً وشرخاً وناراً في الحاضنة الاجتماعية للحراك يؤسس لعودة النظام من باب الإطفائي.
وعليه، وتوقياً لأي عبث من النظام على شاكلة هذه الزيارات المريبة، ولو بدا هذا العبث لوهلة احتمالاً لا أكثر، أو تلاعباً بالسلم المحلّي بوسائل أكثر رخصاً، فإنه لا بدّ لتمتين السلم والاستقرار في الحاضنة التي تشمل الحراك وغيره، من تكريس إعلان انحياز معظم الفعاليات الاجتماعية التقليدية والسياسية السورية إلى جانب الحراك المتجدد للثورة السورية اليوم على النطاق المحلي في السويداء، وعلى النطاق الوطني ككل، أو إعلان الحياد الإيجابي الذي لا يتعاون مع النظام في طعن صرخة الشارع المُحقّة، والتي ترتكز إلى إثباتات متجددة على أن النظام فشل في قيادة سورية الى برّ الامان من منظور السوريين “الموالين” وأنه فاشل ومجرم بطبيعته كما صرخ السوريون الثائرون منذ العام 2011 .
أخيراً، وليس آخراً، أضم صوتي إلى أصوات لا يُستهان بها في دعوة كافة الأجساد السياسية السورية إلى اتخاذ موقف صريح ومعلن من الحراك السوري اليوم في بيانات رسمية، إما داعمة منحازة إلى الانتفاضة أو محايدة إيجابيا حيالها. وهنا أذكر بالدرجة الأولى الاحزاب السياسية والمكونات الاجتماعية عشائرية كانت أم مدنية.
كما أدعو كل المكونات الاجتماعية لمدينة السويداء وريفها إلى الخروج عن موقف الصمت لتقرير مصيرها، وعدم تكرار ما حصل في السنوات السابقة. و الدعوة أيضاً موصولة لشعب سوريا العظيم للتفاعل مع موقف السويداء والفرصة النادرة التي يوفرها لكل حر كي يستعيد بلده حرّة من الاستبداد والاحتلال.