يعرف النظام العربي الرسمي استحالة الأبدية في السلطة في عالم يتطور على مدار الساعة. هبَّت موجات التغيير الدراماتيكية إثر سقوط الاتحاد السوفييتي، وسقوط معسكره الدكتاتوري كأحجار الدومينو بعد إزالة جدار برلين. ارتعب هذا النظام واستنفر خشية من تسلل نسائم الحرية والديموقراطية إلى أرض رعاياه، و مطالبتهم بتداول السلطة ورفع الاستبداد. سعى لتحصين قبضته الحديدية على أرواح رعيته و “بلاده”؛ إلا أن موجات الربيع العربي وصلته أخيراً، و كان أول الغيث في تونس ثم مصر وليبيا واليمن.
وأخيراً، ودون توقع من سلطة الاستبداد الأسدية، تصل الموجة الى سوريا، رغم أن رأس “النظام”-وفي مقابلة مع صحيفة Wall street Journal ديسمبر 2010 – قد استهجن ونفى أي احتمالية لوصول تلك الموجة، مستنداً ربما إلى سجل متجذر و حافل بالإرعاب من جنازير الدبابات والمعتقلات لكل سوري تخوّل له نفسه أن يتأثر بهبوب نسائم الحرية والكرامة والانعتاق. وصلت، وانطلقت؛ ولكن قُوبلت بالحديد والنار، مدعومة بسردية الأبواق التي رأت فيما يحدث “مؤامرة كونية”، وإرهاب إسلامي، وجراثيم مرتزقة عميلة.
بعد أن تمت معالجة ربيع تونس باللقاح المضاد، والمتمثل بمخلوق “شمعي” أعاد كتم أنفاس تونس؛ وتحويل ليبيا إلى ساحة لقوى متصارعة إثر امتداد الأيادي الخارجية الخبيثة إليها؛ وانقضاض العسكر على روح الثورة المصرية، وإعادة “المباركاتية” إلى ما كانت عليه؛ وإغراق اليمن في ما يشبه حرباً أهلية بعثرت البلاد، وأججت حرباً غير مباشرة بين الخليج ومشروع ملالي طهران؛ وأخيراً، ودون توقع من سلطة الاستبداد الأسدية، تصل الموجة الى سوريا.
وصلت رغم أن رأس “النظام”-وفي مقابلة مع صحيفة Wall street Journal ديسمبر 2010 – قد استهجن ونفى أي احتمالية لوصول تلك الموجة، مستنداً ربما إلى سجل متجذرحافل بالإرعاب من جنازير الدبابات والمعتقلات لكل سوري تخوّل له نفسه أن يتأثر بهبوب نسائم الحرية والكرامة والانعتاق. وصلت، وانطلقت؛ ولكنها قُوبلت بالحديد والنار، مدعومة بسردية الأبواق التي رأت فيما يحدث “مؤامرة كونية”، وإرهاباً إسلامياً، وجراثيم مرتزقة عميلة.
إضافة إلى تدخل الأيدي الأجنبية في القضية السورية وتدويلها، عمل كلُ ما تبقى من منظومات عربية – لم تصلها الموجة- بطريقته على وأد هذا السيل الجارف في المحطة السورية. فكانت محاولة احتوائها واحتكارها فيما يُسمى “الجامعة العربية” ، باستراتيجية مزدوجة تمثّلت بطرد “النظام الزميل” من صفوفها” واعتبار الثورة والمعارضة ممثلة للشعب السوري.
أما عملياً، فتم تركيز بعض أنظمة الجامعة على دعم التطرف المتناغم مع سردية “النظام الزميل” القائلة بأنه “يقاوم الإرهاب”؛ ومن جانب آخر النأي عنه، ومقاطعته بسبب إجرامه؛ والعمل على التلاعب ببديل لا قبول له داخلياً أو خارجياً؛ وإبعاد قوى وطنية مستقلة تحمل مشروعاً نهضوياً يعيد للربيع العربي ألقه عِماده الحرية والديموقراطية والانعتاق والحكم الرشيد.
تحت أنظار تلك “الجامعة” أتى التدخل الخارجي الجارف لكل الرؤى والمخططات، وتفاقمت تعقيدات القضية وتضارب المصالح وتصفية الحسابات على الملعب السوري المستباح. تبعثر سكّان سوريا كلاجئين في اصقاع الأرض، وانتفخت معتقلات “النظام الأسدي” بالأبرياء، ومزّقت سوريا الميليشيات وصواريخ قوة عظمى والبراميل والكيماوي. واستمر تخدير “أصدقاء الشعب السوري”، وشلل الأمم المتحدة، و تفرُّج دول الجامعة على المأساة؛ و وصلت كل تلك الصور الرهيبة “لشعوبها” كي تَحْبُطَ وتَخمُدَ أي طموحات أو تطلعات للانعتاق، و تؤثِرَ السلامة في ظل سلطاتها القائمة.
عندها قرر زملاء”النظام” بأن الوقت قد حان لعودة “الزميل”، والتطبيع معه؛ فكانت الذرائع جمود الملف السوري، ومعاناة الشعب، وأزمة اللاجئين، وتَمَزُّق البلد، وتغوّل إيران فيها. وأكدوا أيضاً على فشل ثورتها ومعارضتها وشعبها بالتغيير أو إيجاد حل. وهنا كان لابد من مراسم إعادة تعميدٍ مشفوعٍ بحفاوة استقبال للمنتصر على المؤامرة الدولية والارهاب.
لسوء طالع المطبعين والمرحبين بعودة زميلهم، كان واضحاً حتى لمعدوم البصر والبصيرة أن الذرائع والحج التي ساقوها لتبرير فعلتهم مكشوفة تماماً. فجمود الملف وراءه تهرُّب زميلهم من أي حل سياسي، والتوترات بين المتدخلين في الشأن السوري. وما معاناة الشعب السوري إلا نتيجة لما مارسه من قتل، وتدمير، واعتقال، وتشريد، واستدعاء ميليشيات واحتلالات، ورهنٍ لمقدرات سوريا للمحتلين. أما اللاجؤون، فلا عودة لهم بوجوده، حيث لا يريد عودتهم أصلاً. أما البعبع الإيراني، فهو يزداد تغولاً. والمعارضة معروف من عمل على تكبيلها، والثورة واضح مَن ساهم بتشويهها، والشعب السوري لا بد أنه من آخر اهتمامات أكثر المطبعين.
الواضح أكثر هو أن الأسباب التي بموجبها تم تجميد عضوية “زميلهم” في الجامعة العربية لا تزال قائمة؛ وزاد عليها “الكبتاغون” الذي يهدد حتى وجودهم. لقد تغافلوا بفعلتهم عن حقيقة إدارة ظهورهم لقضية الشعبب السوري ومساهمتهم بتدويل الملف. والآن عبثاً يسعون لاستعادة ذلك الملف. وأهم ما أغفلوه هو رزوح زميلهم تحت أحمال قوانين “قيصر” و”الكبتاغون”، و”حفار القبور” و”حضر التطبيع”.
بعد قمة الكشف والانكشاف هذه، وبعد أن أظهر الغريب لا الأخ – أكان في قمة السبع الكبار أو بعض دول العالم- أنه يرفض التطبيع مع منظومة قتلت “شعبها”؛ لم يعد ذر الرماد في عيون السوريين وغيرهم ممكناً؛ وخاصة أن السوريين قد نضجوا في السنوات الماضية نضجاً بحجم آلامهم، وبقدر ما خزّنوه من معرفة منذ بدء التأريخ. لقد تكشّف كل شيء أمامهم؛ وتبيّن لهم الكثير مما أحاط بقضيتهم من إحباطات وانتكاسات وثغرات ومؤامرات. ورغم كل ذلك لن يروا في خطوات التطبيع الصادمة إلا ذراعاً مسمومة تدور في الفراغ. وقريباً، ستراهم تلك الأنظمة، وسيراهم هذا العالم يعيدون تنظيم أنفسهم، ورص صفوفهم، وإعادة رسم مشروعهم لاستعادة وطنهم موحداً حراً كريماً مستقلاً.