د.باسل معراوي
المصدر: نينار برس
بعد خروج مصر من معادلة الصراع العربي/الإسرائيلي وتوقيع اتفاقيات كامب ديفيد، حيث لم يَعُد العرب قادرين عملياً على شَنّ حرب على دولة الاحتلال ولن نقول حرباً وجودية بل حتى حرباً لتحرير ما احتلته إسرائيل عام 1967 على الأقل.
استمرت دولة الاحتلال بالركون لعقيدتها بأن الأمن يُبنى بالقوة ولا يتحقق إلا بها، وإنه لا مفاجآت بعد مفاجأة حرب تشرين 1973.
لحقت المملكة الأردنية بمصر وتَمّ إبرام معاهدة وادي عربة، فيما رفض حافظ أسد سوريا تتويج جهود الرئيس الأمريكي كلينتون بإعادة الجولان لسوريا تحت ذرائع واهية، ويقال إنه أوصى وريثه بعدم فِعل ذلك، على مبدأ فاوض ولا تُوقّع، لإبقاء تلك الورقة بيد النظام يستعملها في الأوقات الحرجة، وبالفعل أفادته كثيراً عند الورطة التي وقع بها بقتله للرئيس رفيق الحريري، ونكث بكل الوعود التي أعطاها للوسطاء بإتمام صفقة سلام مع دولة الاحتلال، وذلك لاستعمالها في المستقبل.
لم تكن لدولة الاحتلال الإسرائيلي أي سرديات توراتية في سيناء أو الجولان أو الأردن أو حتى غزة التي انسحب منها شارون في عام 2005 وكان كل قادة إسرائيل يتمنون أن يستفيقوا صباحاً ويرون أنّ البحر قد ابتلعها.
وكل سرديات إسرائيل الدينية تتركز في أرض فلسطين التاريخية والتي بالطبع تضمّ القدس والضفة الغربية.
حتى ياسر عرفات عندما قَبِل بالحدّ الأدنى من الحقوق الفلسطينية ووقّع اتفاق أوسلو، أفشلته دولة الاحتلال، وأمعنت في ابتلاعها لأراضي الضفة الغربية وزرعها بسرطان المستوطنات وإضعاف السلطة الوطنية الفلسطينية، وأوغلت في ذلك بعد وفاة ياسر عرفات وانهيار الجدار الاستراتيجي العربي والذي بدأ بغزو الرئيس صدام حسين للكويت وتَكرّس عملياً باحتلال الولايات المتحدة للعراق، وانتشار السرطان الإيراني الخبيث إلى كثير من الدول العربية ثُمّ سيطرته على بعضها، وكان من أولويات نظام ولاية الفقيه الدخول إلى قلب القضية الفلسطينية، لتبرير شعاراته التي يرفعها منذ انتصار الثورة الإيرانية عام 1979، ولتجميل صورته البشعة التي ظهرت كأهداف حقيقية لمشروعه الإمبراطوري.
ولأنّ الخطاب الديني سيؤدي لبروز خطاب ديني آخر مخالف له وليس بالضرورة أن يكون مناقضاً له بل يغدق بالشرعية على نفسه وعلى خصمه بحيث يبرران بعضهما أمام جمهورهما وأمام الآخرين، ويفتح باباً لتديين الصراع، وأينما يدخل الدين سيدخل المُقدّس معه بالضرورة ويصبح تقديس الموت في سبيل المُقدس ضرورة دينية وتغيب بالتالي أفق حلول عملية للصراع الذي يكون دائراً على بضعة كيلومترات من الأرض لا تستحق كل تلك الحروب والجهود ورهن المقدرات واستنزاف الطاقات، وعند تديين الصراعات تختفي الحلول الوسط بالتأكيد لأنّ المقدس لا يمكن التفاوض عليه أو التفريط بجزء منه أو جعله حتى عُرضة للمساومات.
تحول المجتمع الإسرائيلي تدريجياً نحو اليمين الديني المتطرف وتلاشي اليسار الصهيوني العلماني الذي كان على استعداد لإعادة أراضٍ عربية محتلة وطبعاً الاحتفاظ بأخرى وكان قتل رئيس الوزراء إسحق رابين على يد مُتطرف يهودي عام 1994 إيذاناً أو تجسيداً لهذا التحول، وازداد الإمعان الإسرائيلي الديني باستفزاز المشاعر الدينية للمسلمين الذي كان مدعوماً من حكومات الاحتلال، فعلى سبيل المثال فَجّرت زيارة شارون للأقصى الانتفاضة الفلسطينية الأولى.
وبالمقابل كانت تكتسب الشعارات الدينية التي رفعتها جمهورية ولاية الفقيه التي تُلامس أو تتلاقى مع مقدسات الإنسان العربي والفلسطيني وتَجد هوىً في نفسه، وصَعَد بالتالي خطاب إسلامي سني عقائدي فلسطيني كردّ فعل طبيعي على الخطاب اليهودي الديني المتطرف، وأصبح لحركة حماس مشروعية شعبية ومؤيدين كُثُر داخل وخارج فلسطين.
كانت تلك الشعارات الدينية تُشكّل الحلّ للإنسان العربي والذي فشلت أمام عينيه كل المحاولات لقومنة الصراع وجعله عربياً/إسرائيلياً وبعد هزيمة 1967 تلقى الضربة القاضية، وتأكّد فشله أكثر بتوظيف قضية الصراع مع العدو الإسرائيلي عند العسكر القومي العربي الذي استولى على السلطة في بعض الدول العربية لخدمة استمرار بقائهم في الحكم وتَفرّدهم بحكم بلدانهم وتَمّ التمادي حتى لتوريث الحكم لأبنائهم كما حدث في سوريا وفشل في أماكن أخرى.
وبالطبع استفاد اليمين الديني الإسرائيلي من تلك المرحلة لتبرير خطابه أو إثبات معتقداته اليهودية على الأرض لتحقيق النبوءات الدينية التي يؤمن بها، تخادم أو (استفاد) ذلك التيار مع مشروع ولاية الفقيه الديني صاحب المشروع الديني الواضح وبالطبع تخادم مع مشروع حركة حماس الديني وكان له دور غير مباشر في تقويتها ووصول الأموال وأسباب الحياة اليها (خاصة بعد استيلائها على قطاع غزة وتشكيلها لسلطة على الأرض)، ومصادرة الحركة للحياة السياسية في القطاع والانقلاب على العملية الديمقراطية التي أوصلتها للحكم، وذلك تحت حُجج واهية سبقهم اليها الحكام العرب بأن قضية المقاومة والتحرير أولاً.
لكن ليس المتطرفون الدينيون في إسرائيل هم من رأى مصلحة له بتكريس سلطة حماس في غزة وحروبها الأربع والتي بدأت في 2008 بعد سنة من طردها لحركة فتح من القطاع، وصولاً لحرب 2021، قبل اندلاع العدوان الأخير على غزة.
كان اليسار العلماني الصهيوني وأغلبية المجتمع الإسرائيلي ترى أن فوائد حماس أكثر من أضرارها، وأنّ وجودها شَقّ عمودياً القضية الفلسطينية بل الشعب الفلسطيني، وأصبحت توجد على الأرض سُلطتان متخاصمتان كالخطين المتوازيين لا يمكن أن يلتقيا. وبات الحديث عن حَلّ الدولتين عبثياً، لوجود طرفين فلسطينيين شرعيين ويحظيا بدعم محلي وعلاقات خارجية، وإن كانت السلطة الفلسطينية في رام الله هي السلطة المعترف بها دولياً لكنها شاخت مع شيخوخة أبو مازن ونَخَرها الفساد والترهّل وسوء الأداء كما الانظمة العربية التي انتفضت شعوبها عليها في ربيع الثورات العربية، وتحولت حركة فتح إلى حزب السلطة.
راق لدولة الاحتلال هذا الانقسام الفلسطيني واستثمرت به كثيراً، فضاع الحق الفلسطيني بِتفرّق أصحابه.
كان السلام الإبراهيمي الأخير بين دولة الاحتلال وبعض الدول العربية في أواخر عهد الرئيس ترامب صفقة مُربحة لإسرائيل حيث بَنَت تلك الدول علاقات طبيعية مع إسرائيل ودون أن تكون مجاورة لها والأخطر أنه كان أنانياً ولم يَلحظ أو يشترط تحقيق تقدم في العملية السياسية المُعطّلة مع الفلسطينيين، وكانت دولة الاحتلال تأمل تكرار ذلك مع المملكة العربية السعودية، لتطوي صفحة الصراع العربي الإسرائيلي وتَحصره بصراع داخلي مع شتات شعب مُحتل سيقبل بما يُعرض عليه من عطايا لتحسين ظروف حياة الفلسطينيين ويتمّ طمس القضية والتي ضحى العرب والفلسطينيون تحديداً بأنهار من الدماء الزكية لأجلها.
سقطت نظريات وسرديات كُبرى كانت تُؤمن بها أو تتبناها دولة الاحتلال الإسرائيلي منها:
لا يمكن بناء الأمن بالقوة العسكرية والعضلات المفتولة، ولا بالتكنلوجيا الذكية ولا بالتفوق الاستخباراتي، بل إنّ السلام هو الطريق الأمثل لبناء الأمن.
لا يمكن الاستهانة بقوة الخصوم التي لا تحسب فقط قياساً لما يمتلكونه من أدوات عسكرية، بل إنّ القوة الهائلة المُحركة لهم هي مظلوميتهم الناتجة عن هضم أو نُكران حقوقهم، وإنّ طاقات الشعوب الحية تَبتكر طُرقاً للنضال من الكفاح المسلح إلى انتفاضات الحجارة وصولاً لطوفان الأقصى. والنضال الفلسطيني وُجِدَ قبل حماس وسيستمر بعدها
لا يمكن استمرار التخادم مع السرديات أو الخطابات الدينية للخصوم، فسوف تأتي لحظة تفترق فيها المصالح، بمعنى لا يمكن اللعب بالنار والركون إلى التفاهمات غير المكتوبة، أو اللعب ضمن قواعد الاشتباك أو داخل الصندوق، والدليل أنّ الخصم ضربها في مقتل، لن تَخرج منه معنوياً قبل عدة أجيال مهما بالغت في إجرامها لإثبات قوتها وتغيير الصورة التي ظهرت بها.
لقد أيقظ طوفان غزة كل المخاوف التاريخية اليهودية من الاضطهاد الى الهلوكست النازي، وأصبحت الارض الموعودة ليست آمنة لليهود.
صحيح أنّ الطرف الآخر أراد تسجيل نقاط على دولة الاحتلال لإثبات ضعفها وإرباك داعميها الأطلسيين، وأعتقد انّ تلك الضربة تجاوزت ما تَمّ التخطيط له لأسباب عِدّة، وأرى أنّ الغاية من العملية في هذا الوقت تحديداً والذي لا يمكن اعتباره عادياً بل توقيتاً إيرانياً مَحضاً لأن له دلالاته وطبعاً من قِبَل المخططين والمستثمرين لهذه العملية وليس الابطال الذين قاموا بها وهي:
إرباك وإشغال التحالف الأطلسي في بؤرة صراع أخرى لتشتيت جهوده عن الدعم الهائل للجيش الأوكراني، حيث دخلت روسيا في حرب استنزاف لا أمد واضحاً لها وستقضي عليها بالنهاية وبالطبع ليست هزيمة روسيا مصلحة إيرانية لأن تحالفهما العسكري في أوكرانيا بدأ يأخذ أبعاداً استراتيجية.
لم تنجح اتفاقية المصالحة التي أبرمتها المملكة العربية السعودية مع إيران برعاية صينية في كبح الجهود الغربية والسعودية لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وذلك خط أحمر إيراني بل شديد الاحمرار.
امتلاك إيران لأوراق تفاوضية أكثر في المنطقة إذ إن تهديد أمن إسرائيل من الداخل يُتيح لها أخذ مكاسب من الولايات المتحدة في ملفات عديدة وشائكة بين البلدين.
جرف طوفان غزة سياسات واستراتيجيات وسرديات عديدة وبات التغيير في شكل وبُنية الشرق الأوسط حتمياً أو مسالة وقت وقد نرى ذلك في المدى القريب يَتجسّد في:
حَلّ مُنصف للقضية الفلسطينية حيث لم يَعُد الاستثمار مُتاحاً لأحد فيها من داخل إسرائيل أو خارجها.
بتر الأذرع الإيرانية تدريجياً وفي المدى القريب، وإرجاع إيران بالقوة إلى حدودها كدولة طبيعية.
ضمان أمن الشرق الأوسط وحوض المتوسط والذي يَضمّ منابع الطاقة وطرق توصيلها ويُشرف على الممرات المائية المهمة ويحتضن مشروع القرن وهو الممر الهندي – العربي – الإسرائيلي – الأوربي كمنافس لكل الطرق والممرات التجارية المطروحة من الصين أو غيرها.