د. يحيى العريضي
يصعُبُ أن يكون الانتقام الإسرائيلي بعد الخرق والامتهان الذي تعرضت له إسرائيل بحدود أي توقعات، بل سيتجاوزها بما لا نتصور. حتى أمريكا تتملّكها صعقة غير مسبوقة تدفع صنّاع القرار ليُجمعوا على تأييد قرار الحرب كمخرج أو تكفير عمّا يشبه القصور الاستراتيجي القاتل؛ ويتجه إلى عملية استئصال دامية.
والأصعب هو القفز فوق “طوفان الاقصى”. لقد تمَّ تصويره كتهديد وجودي لاسرائيل، لا يمكن علاجه إلا باستئصال – ليس لحماس فقط، وإنما لحاضنتها أيضاً. و هنا يحضر إحياء المخططات القديمة المتمثلة ب”الترحيل”، و تطفو بقوة فكرة “الوطن البديل”، أو أي وطن، أو حتى مأوى لمن يبقى على قيد الحياة. والأخطر، يُراد لذلك أن يتم بارادة العرب والعالم، او رغما عنهم.
عقابيل طوفان الأقصى تكشف ارتباك نتنياهو، وتفاقم الاتهامات الناتجة عن تماهٍ تخادمي مع منظومات وظيفية رأسها ايران؛ و هو الذي فسح في المجال لحدوث خرق بهذه الكلفة غير المسبوقة؛ والتي لا يمكن لنتنياهو أو غيره أن يمرّرها على شعبه. كلفة كهذه خَرَقَت قواعد الاشتباك، وتجاوزت حرباً مع جيوش. فالخسائر ضباط، ووحدات نخبة، والعدد بالعشرات وربما بالمئات.
كل يوم يمر يكشف عن فقدان الهيبة؛ وعن غياب المبادرة، التي كانت تعطي إسرائيل موقعاً أعلى ندية على الدوام. من عقابيلها، هجرة إسرائيلية عكسية تبدأ؛ واستثمارات تتضرر؛ وخرائط الطاقة تتبعثر؛ والدعم الشعبي تجاه التطبيع يتآكل؛ والأخطر من كل ذلك تنامي قدرات حماس، الحلقة الأشد حرجاً في تلك المنظومة، لتهدد عمق إسرائيل، فما بالك بقدرة الأصيل الآيراني وحزب الله إذا اشتركت؟!
لن ينجو نتيناهو اليوم، مالم يتحول الى شارون اخر من الصقور؛ فحجم الاختراق بعملية غزة مهول، و يشكّل تهديداً استراتيجياً خطيرا. تلك متغيرات بقيمة استراتيجية عالية جدا. هذا ما دفع المعنيين للقول بأن هذه اللحظة، والعالم خلف إسرائيل، تشكّل أفضل لحظة لضرب نووي ايران وقيادة حزب الله.
من جانب آخر، كيف يمكن أن تُفرَدَ خرائط الطاقة غدا بلا تغيير جذري بالمنطقة، وتفكيك للمنظومة الإيرانية بأذرعها؟ وكيف يمكن أن يكون للتطبيع فرصة في ظل تعثره الشعبي على ضوء الخرق الذي تم إيرانياً؟
ومع انتقال ثقل الإدارة الأمريكية إلى تل ابيب، والتي شهدها البعض كصبي إسرائيلي ينتظر بخوف أوامر تل ابيب. وعلى ضوء استنفار عالمي يجعل العالم يقف على رؤوس أصابع، هناك من يعتقد بأنه حتى تجريف الفلسطينين من غزة إلى القطب الشمالي، لن يغير واقع منظومة وظيفية أدّت مهمتها بخبث. وفي هذا السياق أتت كلمة ترامب ذات ثقل كبير جدا في واشنطن، وكان لها صداها بإسرائيل، حيث حمَّل نتيناهو المسؤولية وفق التماهي الوظيفي السابق. كل هذا كان محرجاً وخطيرا، ويدفع باتجاه واحد.
مراقبون يؤكدون أن المتغيرات الجديدة لن تخدم فقط إسرائيل استراتيجيا، بل تخدم هذه المرة اهداف كبرى لواشنطن، لان الترتيب القادم خارج المنظومة الوظيفية؛ فهو سيحجّم جدا مسار الحزام والطريق الصيني، و سيحشر البوتينية في ادنى درجة تاثير استراتيجي عالمي وإقليمي، وسيعزز ثقةً مفقودةً مع الخليج، تحديدا السعودية بكل ثقلها واقتصادها وأسواقها، وسيعيد امريكا لاعبا اول دون منازع أو حتى شريك؛ و ربما يعيد مقولة تتكرر بأن هذا القرن، قرن أمريكي بامتياز؛ وربما الأدق قرناً اسرائيلياً بعنوان امريكي. فالدور الآن للعقل الاسرائيلي الاستراتيجي.
لن يكون غريباً أن من سيتماهى مع هذه الاستراتيجية، سيضمن البيت الابيض وازدهاراً اقتصادياً كبيراً قادماً. وما قد يؤكد ذلك أن المحللين الاهمً بواشنطن معظمهم يهود من اليمين؛ وخاصة أن بعداً وجودياً يهدد إسرائيل هو المحرك الإضافي. وكل ذلك تحرّكه دوافع إديولوجية وجودية واقتصادية وسياسية.
في درجة تأثير طيف ما حدث في غزة بالاتجاه الروسي، لم يكن خفيّاً أن التورط الروسي- ولو كان دعمه بحدّه الأدنى- إلا أنه يشكّل غطاءً سياسياً، و يمتد الى مستويات تعاون أعلى عسكري وربما معلوماتي وبعض الدعم السيبراني الذي أسهم بالتشويش على الجيش الإسرائيلي أثناء وبعد عملية طوفان الأقصى. وهذا ينبىء بأننا سنشهد قريبا انتصارات سريعة اوكرانية بدعم أقمار إسرائيلية، ومعلومات، وسلاح اكثر جدوى ضد الروس؛ وذلك لإجبارهم على رفع الغطاء عن ايران والنظام أولاً، وسحب ذيول الخيبة من أوكرانيا نحو موسكو تالياً.
لا بد أن روسيا استثمرت بالحرب لإزاحة الأنظار عن وضعها في أوكرانيا، ويستحيل أن تكون بعيدة عن كواليس ما حدث. و لا بد أن استخدام أمريكا للفيتو لمنع وقف الحرب قد أسعد الروس، الذين يتمنون لأمريكا أن تتورط بارتكاب جرائم حرب. ولكن تبقى الخشية الروسية الأكبر أن تقوّض أمريكا اذناب ايران بالمنطقة؛ فهنا سينقلب السحر على الساحر الروسي. و من هنا إذا كان من ضمن الخطة الأمريكية اسقاط منظومة الأسد، فستنجح بتحقيق ثلاثة أهداف في وقت واحد: خسارة الروس لسوريا والمتوسط، انهاء الوجود الإيراني في سوريا، و نهاية المنظومة الأسدية؛ وفي المحصلة النهائية لملمة أسمال خيبتها في أوكرانيا، والانكفاء لوقت مديد.