بسام العيسمي
من يعمل يُخطئ وهذه من البديهيات المعرفية، ومسلمة لاتحتاج لبرهان، مجانبتنا للحقيقة والصواب أحياناً، وضبابية الرؤية في استقرائنا لمفردات الواقع السوري ومشهدية الحدث والفاعلين فيه في لحظة ما ليس عيباً.
لكن العيب أن لا نتحلّى بالوعي السياسي، وشرف المسؤولية في حمل الأمانة الوطنية والأخلاقية التي تصدينا لها اتجاه وجع وألم السوريين وحلمهم بالحرية والإنعتاق من الاستبداد، وأن لا نمتلك المرونة الكافية وسرعة الاستجابة لإجراء المقاربات المستمرة لتطورات الحدث وتمظهراته على أرض الواقع في سياق الزمان والمكان، بدلالة مصالحنا وأهدافنا لنتدارك أخطائنا، ونعدّل في خياراتنا وسياساتنا على ضوء استقرائنا العميق للمشهد وتفاعلاته، من خلال تفكيكه لعناصره المكونة له والفاعلة فيه وإعادة تركيبه لنتبيّن مواقع الخلل فيه وكيف كان أدائنا خلاله، وأين تكمن أخطائنا؟ بعقل بارد تحليلي غير انفعالي مُعقّم من لوثة الإيديولوجية التي تحجب عنا زاوية الرؤية الموضوعية والدقيقة له، وتحرفها عن سمتها الصحيح وتخضعها لمحددات هويتها الإيديولوجية العابرة للحدود الوطنية في خروج منها على محددات الهوية الوطنية السورية الجامعة .
علينا تحديد اتجاه البوصلة في أية مقاربات لسياساتنا وممارساتنا ومواقفنا التي نتخذها ونتبناها انطلاقاً من سوريتنا الجامعة على قاعدة ومسلمة بأن سورية التي نسعى لها هي وطناً نهائياً لكل أبنائها السوريين جميعاً، المتساوون في الدور والحقوق والمكانة وتكافئ الفرص دون تمييز.
ووفقاً لسمت الخيارات الحقيقية والجوهرية لثورة الحرية والكرامة، وحلم السوريون بالخلاص والانعتاق من الاستبداد.
وإجراء المقاربات الحقيقية والموضوعية الشفافة والمسؤولة لأزماتنا وإخفاقاتنا وأخطائنا، وأن نمتلك الجرأة الكافية والشجاعة الوطنية والحس الوجداني للإعتراف بها، فمن لا يُقر بأخطائه لايستطيع الخروج منها.
والبحث في مسؤولياتنا عن الحالة المزرية والكارثية التي وصلنا إليها، وكيف كان أدائنا وممارساتنا، وكيف أدرنا سياساتنا، وأين تكمن أخطائنا، قبل أن نبحث بمسؤولية الآخر.
فمن السهل علينا إراحة أنفسنا عناء البحث والتقصّي ونُعلّق على مشجب الخارج مسؤولية ما آلت إليه أحوالنا وكارثية الوقع، ونحمّله كل أخطائنا وإخفاقاتنا، ونتهمه بالتآمر علينا، ونخلي مسؤليتنا من كل هذا ونخلد للراحة (وكفى الله المؤمنين شر القتال).
وهنا تٌكمن الكارثة لأننا وبهذه الحالة نقع في فساد الاستدلال، ونبحث عن الأسباب في غير موضعها، ونخطئ في تشخيص أمراضنا، مثلنا كمثل الطبيب الذي يُخطئ في تشخيص المرض، فيوصف العلاج والدواء الذي لاعلاقة له بحقيقة الداء، وليس فيه شفاء للمريض، لا بل قد تتدهور صحته ويتفاقم مرضه، وبذلك نكون قد دخلنا في متاهات الضياع التي تزيد من أكلافنا وخساراتنا.
وهذا هو حالنا مع الأسف تتراكم أخطائنا وتتعمق كوارثنا وتتفاقم أزماتنا دون أن ننجح في تخليق أية حلول من شأنها وقف هذا الانهيار والتدحرج إلى القاع الذي لا يزال مستمراً، لأننا لا نٌقر بأخطائنا ولا نعترف بهزائمنا، فطيلة الثلاثة عشر عاماً الماضية وإلى الآن ونحن في عمق الكارثة التي تتوسع مطارحها وارتداداتها المؤلمة على السوريين جميعاً.
هٌزمت اليابان في الحرب العالمية الثانية وأعلنت استسلامها، لكنها اعترفت بهزيمتها واستوعبتها، وتعاملت معها كواقع تنتطلق منه لإعادة البناء فأين هي اليابان اليوم؟
هُزم النظام الحاكم في دمشق أمام إسرائيل في عام 1967 لم يعترف بهزيمته وأسماها نكسة، لا بل قدّم خطاباً بائساً بادعائه بأنه أفشل مخططات العدو الذي كان هدفه الرئيس إسقاط النظام التقدمي في دمشق (إذا خسرنا الأرض لامشكلة المهم بقاء النظام).
هُزمنا في حرب أوكتوبر لعام 1973 وخسرنا الأرض وحوّلت طغمة الأسد هزيمتها لانتصار ولا زالت تتغنى به حتى الآن.
فعدم الإقرار بالهزيمة والأخطاء هي سياسة وثقافة أنظمة الاستبداد المشوّهة التي لا تعترف بالأزمات ولا تقر بالهزائم، وخطابها يتصف بالمداورة والغموض والإبهام والبعد عن الواقع، لأن وضوح الخطاب ينقله من حالة التعمية والإبهام الى حالة الشفافية التي تعني المصارحة والإعتراف بالأخطاء والكشف عنها، وتشريح كل ملابساتها وأسبابها التي قادت إليها،
مما يقود ذلك لحوار صادق وجريئ وشفاف يحدد المسؤوليات ويتلمّس إعادة تحديد السمت واتجاه البوصلة لتدارك الفشل.
وهذا بالطبع مالا تريده ولا تسمح به تلك الأنظمة، لأنه يتناقض مع طبيعتها وبنيتها الاستبدادية ويُضعف من قبضتها على مجتمعاتها.
ومعارضتنا البائسة التي تسلّقت لتمثيل الثورة وبكل أسف هي الابنة الشرعية للإستبداد، والتي تحمل كل تشوهاته من الائتلاف وتعبيراته السياسية والعسكرية من فصائل وهيئة تفاوض وحكومة مؤقتة ولجنة دستورية ومنصات،
والتي تُعرّف نَسَباً بدلالة الدول التي أشرفت على ولادتها وليس بالدلالة السورية، جميعها برهنت عن فشل ذريع في إدارة العمل التفاوضي مع النظام، وحجم ارتهانها للخارج الذي ط سلمته قرارها، بحيث تحوّلت لأداة وظيفية بيد الدول الداعمة والراعية لها، واستجابة لمصالح هذه الأخيرة، وليس استجابة لخيارات الثورة وحلم السوريين بالحرية والكرامة ووفاءً لدمائهم وآلامهم.
مما أفقدها الحاضنة الشعبية السورية التي غدت رافضة لها ولا تثق بها، وهذا ما أضعف مكانتها لدى داعموها، هذه المعارضة الغارقة بأُميتها السياسية حتى الآن لا تُقر بأخطائها وهزالة أدائها وارتهانها وتلجأ دائماً للمداورة والتبرير وتحميل فشلها للخارج.
لم نسمع من الائتلاف كمؤسسة أو من أحد أعضائه احتجاجاً أو تصريحاً ولا حتى تلميحاً يدين وعلى سبيل المثال ارسال الشباب السوري للقتال في أذربيجان وأفريقيا، وما مصلحة السوريين بذلك، حتى الإعتراض والتذمّر لايستطيعون عليه عند داعميهم، وهذا مؤسف حقاً.
كل هذا لم يدفع تلك المؤسسة للقيام بأي مراجعة نقدية وحقيقية شفافة لعملها طيلة الثلاثة عشر عاماً الماضية من عمر الثورة، وبخاصة في المفاصل المؤلمة والتحولات الكارثية التي مرت بها وكانت سبباً فيها، ولا مصارحة السوريين وبشفافية بأنها أخطأت في هذا الموقف أو ذاك وأن تعتذر عن خطأها وفشلها.
لايعترفون بفشلهم، بل يحمّلونه على مشجب الخارج، ويلجأون للمراوغة والتبرير وقلب الحقائق، مع الأسف أقل مايمكن قوله فشلوا في حمل الأمانة، وبرهنوا بأنهم لايصلحون بأن يكونوا رجال ثورة ودولة.
ذهبوا للبحث في المسألة الدستورية قبل البحث في هيئة الحكم الإنتقالي، وانخرطوا في اللجنة الدستورية التي ولدت من خارج الرحم الوطني السوري، ودون أن يكون لها أي سقف زمني لإنجاز أعمالها، في مخالفة واضحة للقرار 2254 إن كان من حيث تراتبية مراحله الثلاث، أو من حيث الضبط الزمني لإنجاز تلك المراحل، مما تشكّل انقلاب على العملية السياسية برمتها، سيقوا إليها بأمر من الراعي فهم لا يمتلكون قرارهم .
يبررون ويقولون نحن قبلنا للضغوط التي ُمورست علينا، لكننا أفشلنا رغبة الروس والإيرانيين بالاستفراد بها (أي باللجنة الدستورية) ونجحنا بأن تكون تحت مظلة الأمم المتحدة، تماماً كحجة النظام في تبريره لهزيمته في العام 1967، خسر الأرض لكنه نجح في الحفاظ على النظام التقدمي في سورية،
هذه المعارضة هي مُنتج من منتجات الاستبداد بنية ووعياً وثقافة وسلوكاً، فهي لاتنتمي للثورة (مع التقدير والاحترام لبعض شخوصها، فأنا أتكلم عن الأداء ولا أشخصن).
لذا يجب هدم هذا البناء الذي لا ينتمي للثورة وجوهر خياراتها في الحرية والحقوق والكرامة والديمقراطية، فهي عائق وعقبة كأداء حقيقية أمام الثورة لتحقيق حلمم السوريين بالحرية والكرامة، وتساهم دون أدنى شك في إطالة عمر النظام.
وهنا تٌكمن مسؤولية النخب الوطنية السورية التي تم تحييدها أو حيدت نفسها لمقاربات اعتقد بأنها خاطئة، أن تعود للساحة لتسهم في صناعة البديل الوطني الديمقراطي المؤهل لحمل راية الثورة قبل القيام بفعل الهدم، أو أن يترافق معه تداركاً لحدوث الفراغ، والخطوة الأولى للخروج من حالة الاستنقاع هي أن نقود حراكاً وحواراً وطنياّ واعياً ومسؤولاً ومنظماً بين مختلف الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية والأهلية والمدنية والأطياف السياسية والدينية والقومية والفكرية السورية خارج وداخل سورية لا يُقصي أحداً غير الذي لا يؤمن أو يعارض مشروع التغيير الوطني الديمقراطي. ومن لا يعترف بالمواطنة المتساوية وهوية الدولة الوطنية السورية الجامعة خروجاً عن كل الإصطفافات والإنقسامات الطائفية والمذهبية والقومية التي لاتبني أوطاناً مستقرة، لبناء كتلة وطنية سورية عريضة ووازنة، انطلاقاً من قاعدة بأن “الهوية الوطنية السورية هي فضاء جامع لكل السوريين، وبأن سورية لكل أبنائها المتساوون في الحقوق والدور والمكانة وتكافئ الفرص”.
إذ أن تعزيز الهوية الوطنية السورية لا يتعارض مع الهويات الفرعية الأخرى في المجتمع، بل يتكامل معها، وتكون عامل إغناء لها.
وقد تكون مبادرة المناطق الثلاث التي تم إطلاقها منذ أشهر هي إحدى المبادرات والخطوات الصحيحة التي يمكن أن يُبنى عليها في هذا الخصوص، وتؤسس لبداية حوار وطني جاد بين السوريين، وانتفاضة السويداء أيضاً وتمنياتنا من حرائرها وأحرارها الشجعان والقوى السياسية والمدنية والمهنية والنقابات المشكّلة لها أن تبدد قلقنا، وتُنجز هيكليتها كمؤسسة، والتي تأخرت بها، وتفرز قيادتها السياسية والوطنية التي تمثلها وتعبّر عنها.
المأسسة والتنظيم هي حوامل النجاح، والفوضى هي بعثرة للجهود وضياع لها، هذه الإنتفاضة بسلميتها وحضاريتها استعادت ألق بدايات الثورة، وما ترفعه من شعارات وطنية جامعة تشكّل عناوين وطنية جامعة يمكن البحث فيها وتطويرها للوصول لتقاطعات ومشتركات وطنية سورية تسهم في إعادة ترميم الفضاء الوطني السوري وتضع المقدمات الأولى لمشروع وطني ديمقراطي سوري يستند لقاعدة شعبية كبيرة لقيادة مرحلة التغيير الوطني الديمقراطي الهادف لإسقاط الإستبداد بكل أشكاله السياسية والقومية والدينية والحامل لوجع وهمّ السوريين وأملهم بوطن حر يساوي بين أبنائه جميعاً .
المهم أن نبدأ الخطوة الأولى التي تأخرت كثيراً… فهل نستطيع ذلك؟