نشر مركز جسور للدراسات دراسة حول استفادة إيران من مصادرة نظام الأسد لأملاك السوريين الذين هجرهم من مدنهم وبلداتهم، فيما يلي نصها كما ورد من المصدر:
مقدمة
نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 شرّع مجلس الشعب التابع للنظام السوري قانون “إدارة واستثمار الأموال المنقولة وغير المنقولة المصادَرة بموجب حكم قضائي مبرَم”، والذي أصدره بشار الأسد بموجب القانون رقم 26 لعام 2023 ويقضي بأن تؤول “الأموال المنقولة وغير المنقولة المصادَرة بموجب حكم قضائي مبرم إلى ملكية الدولة” على أن تدير هذه الأموال وتستثمرها وزارة المالية داخل الحدود التنظيمية ووزارة الزراعة خارجها، تبع ذلك إصدار بشار الأسد القانون رقم 43 في 28 كانون الأول/ ديسمبر 2023 القاضي بإحداث الهيئة العامة لإدارة أملاك الدولة وحمايتها، ومهمّتها تولّي تنفيذ أحكام قانون أملاك الدولة وقانون الإصلاح الزراعي.
تُعتبر هذه التشريعات امتداداً للقوانين التي استحدثها النظام عَبْر عقود طويلة ضِمن سياسته العقارية الممنهجة التي تفرض وقائع جديدة باستمرار على المواطنين، غرضها الظاهر تنظيم الأحياء وحلّ مشاكل الملكيات والتطوير العقاري، إلا أن هدفها الأساسي كان زيادة السيطرة أو الاستيلاء على هذه الملكيات، وقد عمل النظام منذ عام 2011 على تهيئة الأرضية القانونيّة للحجز على أموال المعارضين ومصادرتها، مما يتيح له التحكّم النهائي بها، فأصدر العديد من المراسيم والقوانين بهدف توسيع نفوذه من خلال قوانين الملكية العقارية مثل قانون 25 لعام 2011 وقانون التخطيط 23 لعام 2015، والقانون رقم 10 لعام 2018.
تنبع خطورة هذه القوانين -لا سيما الصادرة بعد عام 2011- من كونها تطال شرائح واسعة من السوريين كالمحتجَزين في سجون النظام والمختفين قسريّاً في أفرعه الأمنية، مِمَّنْ صدرت بحقهم أحكام مصادَرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة التي كانت في معظمها مضافة إلى عقوباتهم الأصلية بالسجن أو الإعدام، وكذلك مئات الآلاف من المعارضين والمطلوبين والمهجَّرين السوريين، عَبْر إصدار قرارات حجز ومصادرة إدارية وقضائية مكثفة لأموالهم، ويُمكن لإيران استغلال هذه القوانين مستقبلاً لصالحها، بالسيطرة على عقارات المهجَّرين وذوي الأحكام القضائية وأملاكهم مقابل الديون المالية المستحقة لها على النظام، مما يوجِب إيضاح خطورة هذه القوانين على مدار السنوات السابقة، وبيان مشاكلها الحقوقية والدستورية والخُطوات اللازم اتخاذها حيال مآلاتها المستقبلية المحتملة.
أولاً: أساليب النظام للاستيلاء على ممتلكات السوريين
اتبع النظام السوري مجموعة من الأساليب التي سيطر بموجبها على الكثير من الأموال والعقارات في البلاد، مثلما هو موضَّح أدناه:
• فرض الأمر الواقع ومتطلبات العمليات العسكرية: أغلق النظام العديد من البلدات والأحياء في وجه أصحابها بدعوى استمرار العمل العسكري ومتطلباته فيها، وما زال هذا الإغلاق قائماً في عدة أحياء أو بلدات رغم انتهاء المعارك فيها مثل مدينة القصير منذ أيار/ مايو 2013، وبعض أحياء مدينة تدمر منذ آذار/ مارس 2017[1].
• التحايل القانوني والتزوير: سيطر النظام على عقارات معينة بالاعتماد على بعض المتنفذين التابعين له؛ إما بدعوى أنّ مالكيها معارِضون أو لأنهم غادروا البلاد بعد عام 2011، وأغلب هذه العقارات مرتفعة القيمة لا سيما في مدن حلب وحمص ودمشق، إلا أن بعضها كُشف مما اضطر النظام لمحاسبة بعض الموظفين الصغار في دوائر السجل العقاري بتهمة التزوير.
• منع التصرف عَبْر قرارات المحاكم القضائية: أصدر النظام مراسيم مختلفة تمنح الضابطة العدلية وعدة مؤسسات أخرى حق الحجز الاحتياطي على عقارات المتهمين بجرائم الإرهاب، مثل: المرســوم 63 لعــام 2012 الذي يمنــح كلّاً من النيابة العامة -ومن تُفوّض- والشرطة ومكتب الأمن الوطني وقاضي التحقيق والإحالة القدرة على إيقــاع الحجــز الاحتياطــي علــى عقــارات المتهميــن بجرائــم الإرهــاب، كذلك القرار رقم 4554 لعام 2015، والتعميم رقم 1565 لعام 2015 الصادر عن وزير الداخلية، إضافة لتعميم وزير العدل رقم 30 لعام 2021، وجميعها يقضي بضرورة الحصول على الموافقة الأمنية المسبقة قبل البدء بالمعاملات العقارية والوكالات. في غضون ذلك تم رصد قيام نحو 68 جهة تنفيذية وقضائية بإصدار قرارات مشابهة خلال الأعوام الماضية، توزّعت بين قرارات خاصة بتجميد الأموال المنقولة وغير المنقولة، وقرارات حجز تنفيذي، وقرارات حجز احتياطي، وقرارات منع التصرف، وقرارات وضع إشارة حجز وتجريد.
• مصادَرة الأموال والممتلكات بمراسيم قانونية: أصدر النظام منذ عام 2011 أكثر من 21 قانوناً ومرسوماً تتكامل مع رؤيـته ومشـاريعه فـي الاسـتيلاء علـى الأمـلاك العقاريـة للسـوريين، وثَمَّة الكثير من المراسيم التي تصبّ في ذات الغرض قبل عام 2011، واستخدم حافظ الأسد بعضها في قمع معارضيه وتجريدهم من ممتلكاتهم وحقوقهم، أبرزها -حسب تسلسلها الزمني-:
– القانون رقم 5 لعام 1982 المتضمن التخطيط العمراني عَبْر وزارة الإسكان، وقد تولّد عن القانون توقُّف حركة البناء المنظَّم داخل المدن ونشوء العشوائيات والسكن المخالف وغلاء المنازل واقتطاع بساتين وأراضٍ حول المدن الكبرى.
– القانون 15 لعام 2008 المتضمِّن إحداث هيئة التطوير والاستثمار العقاري، وقد كان مرجوّاً منه حلّ مشكلة السكن العشوائي قبل أن يتحوّل لمنح وكالات حصرية لتنفيذ المشاريع من قِبل المتنفذين والاستيلاء على أراضي العشوائيّات وعدم تقديم تعويض أو بديل للناس.
– القانون رقم 25 لعام 2011 الذي جاء لتلافي الثغرات في القانون 15 السابق، وقد استمرت عملية طرح المشاريع والاكتتاب دون ضبط المتعهدين، واستطاع المتنفذون ومتزعِّمو اللجان الشعبية (الشبيحة) والمتعهدون الموالون للنظام الاستمرار في أعمال البناء العشوائي دون تراخيص أو ضوابط هندسية.
– المرسوم رقم 66 لعام 2012 القاضي بإحداث منطقتين تنظيميّتَين للعاصمة في المزة وكفرسوسة والقدم وداريا، وبموجبه تمّ الاستيلاء على ممتلكات مئات المواطنين في مناطق المخالفات، ولم يتم التعويض عنها؛ حيث استُخدم هذا المرسوم وسيلةً لمعاقبة المناطق الشعبية المعارِضة للنظام.
– القانون رقم 23 لعام 2015 الذي يمنح الوحدات الإدارية الحق في استملاك مناطق المخالفات الموجودة ضِمن المخططات التنظيمية المصدَّقة. أعطى للوحدات الإدارية الحق في الاقتطاع مجاناً من العقارات في مناطق المخالفات ضِمن مسمَّى التخطيط العمراني للمدن، وبموجبه تم الاستيلاء على العديد من أملاك المواطنين في معظم مناطق المخالفات التنظيمية.
– القانون رقم 10 لعام 2018 القاضي بتعميم أحكام المرسوم رقم 66 الذي يقضي بإنشاء مناطق تنظيمية في معظم مناطق سورية، ويمنح السلطات المحلية الإدارية سلطات واسعة في تقدير مدة التبليغ والطعون، واقتطاع الأملاك المخالِفة دون تعويض، حيث يحقّ للهيئة المطوِّرة الاستيلاءُ على الأراضي والعقارات بشرط وضع أسهم غير محددة العدد ضِمن المشروع، ومَن يتأخر عن تقديم اعتراضه لمدة أسبوع من صدور القرار يسقط حقه في التملُّك، وبسبب آليات الاستعجال في القانون والضغط الدولي خفّف النظام من شروط تطبيقه بنصّه، ومنح المعترضين مهلاً زمنية أطول وسمح للأقارب بتقديم الثبوتيات المطلوبة، إلا أنه ما زال نافذاً إلى الآن.
• تعديل قوانين التملُّك وثبوتيّاتها: أصدر النظام مجموعة من القوانين تسهّل لغير السوريين التملُّك في سورية وإمكانية التحايُل والتزوير بهدف السيطرة على الأملاك وإنشاء سجلّات عقارية جديدة تحلّ بديلاً عن السجلات التاريخية القديمة، منها:
– القانون رقم 11 لعام 2011 القاضي بالسماح لغير السوريين بالتملك العقاري في سورية، مما يمكّن الأجانب عموماً والإيرانيين خاصة من التملك الواسع في سورية، ويساهم في التغيير الديموغرافي.
– القانون رقم 43 لعام 2011 القاضي بمنع المواطنين من حق التصرف في المناطق الحدودية.
– القانون رقم 11 لعام 2016 القاضي بإيقاف تسجيل الحقوق العينية لدى السجل العقاري وإحداث السجل اليومي. هكذا تم تجاوز السجل العقاري السوري الذي تطور تاريخيّاً منذ الدولة العثمانية من دفتر خان إلى الدائرة العقارية في دولة الحكومة العربية عام 1922 إلى مرحلة تنظيمها في القانون المدني السوري عام 1949 بإحداث السجل العقاري وإلحاقه بوزارة العدل ثم الإدارة المحلية. بالتالي يمكن الطعن بمصداقية السجل العدلي وعدم الاعتراف بوثائقه القديمة مقابل وثائق السجلات الجديدة.
– المرسوم رقم 12 لعام 2016 الذي يمنح النسخة الرقمية من السجل العقاري صفة الثبوتية، مما يسهّل عمليات التزوير في الوثائق والتحايل بهدف الاستحواذ على ممتلكات المواطنين.
– القانون رقم 19 لعام 2012 الصادر بعد إنهاء حالة الطوارئ في سورية والمتعلق بمكافحة الإرهاب، حيث تنصّ المــادة رقم 11 علــى أن “تحكــم المحكمــة بحكــم الإدانــة بمصــادرة الأمــوال المنقولــة وغيــر المنقولــة لــكل مــَن يرتكــب إحــدى الجرائــم المتعلقــة بتمويــل الأعمــال الإرهابيــة أو ارتــكاب إحــدى الجرائــم المنصــوص عليهــا فــي هــذا القانــون”. كما منح القانون النائــب العــامّ أو مَــن يفوضــه بموجــب هذه المــادة صلاحيــة إصــدار أوامــر تجميــد الأمـوال، فيمـا نصـت المـادة رقم 12 مـن القانـون ذاته علـى أن المحكمـة: “تحكـم بحكـم الإدانـة بمصـادَرة الأمـوال المنقولـة وغيـر المنقولـة وعائداتهـا والأشـياء التـي اسـتُخدمت أو كانـت مُعَـدَّة لاسـتخدامها فـي ارتـكاب الجريمـة” وألزمـت المادة القاضــي بالحكــم بمصــادرة الأمــوال المنقولــة وغيــر المنقولــة للمحكــوم، يُعتبــر هــذا الإلــزام تجــاوُزاً علــى ســلطة القاضـي الـذي يُفتـرض أن يتمتـع بالحريـة والسـلطة التقديريـة الكاملـة عنـد إصـداره الأحـكام، كما أن المادة رقم 11 جعلت المصـادَرة العامـة للأمـوال الممنوعة بنصّ الدستور أمراً قانونيّاً، ومنحت النائب العامّ الحق في تفويض المصادرة.
– التعميم رقم 346 لعام 2019 الــذي يطلــب مــن دوائــر المصالــح العقاريــة فــي المحافظـات إيـلاء الاهتمـام بالأحـكام القطعيـة الخاصـة بالمصـادَرة بنـاءً علـى القانـون رقم 19 الخاص بمكافحة الإرهـاب.
– القانون رقم 22 لعام 2012 القاضي بإحداث محكمة الإرهاب المختصة بتطبيق القانون رقم 19 بعد إلغاء محاكم أمن الدولة والمحاكم الميدانية. فعلياً أعفى القانون المحكمة من اتباع أصول المحاكمات ومنحها صلاحيات المحاكم الميدانية.
– القانون رقم 26 لعام 2023 القاضي بأن تؤول “الأموال المنقولة وغير المنقولة المصادَرة بموجب حكم قضائي مبرم إلى ملكية الدولة” على أن تدير هذه الأموال وتستثمرها وزارة المالية داخل الحدود التنظيمية ووزارة الزراعة خارجها.
– القانون رقم 43 لعام 2023 القاضي بإحداث الهيئة العامة لإدارة أملاك الدولة وحمايتها، ومهمّتها تولّي تنفيذ أحكام قانون أملاك الدولة وقانون الإصلاح الزراعي.
من مجمل هذه القوانين يبدو أنّ النظام استخدم القوانين العقارية كأداة لتطبيق مبدأ “الغنائم للمنتصر” ولضمان استمرار سيطرته ونفوذه وأداة لمعاقبة معارضيه والمناطق التي خرجت ضده عام 2011، والآن يستخدم هذه القوانين لدفع فواتير حربه لصالح حلفائه إيران وروسيا.
ثانياً: الانتهاكات الدستورية والقانونية والحقوقية في مصادَرة أملاك السوريين
ينتهك النظام بمصادَرة أملاك السوريين حقوقهم كمواطنين، ويخرق القانون المدني السوري وقانون العقوبات السوري والدستور الذي أقرّه عام 2012، حيث تنص المادة 15 منه على أن: “الملكية الخاصة جماعية أو فردية مصانة، والمصادَرة العامة في الأموال ممنوعة، ولا تُنزَع الملكية الخاصة إلا للمنفعة العامة وبتعويض عادل وَفْق القانون”. كما ينصّ القانون المدني السوري على أن لمالك الشيء في حدود القانون الحق في استعماله واستغلاله والتصرف به، ولا يجوز لأحد أن يحرم من ملكه إلا بالطريقة التي يقرها القانون بتعويض عادل، وحدّدت المادة 69 من قانون العقوبات السوري ما يمكن مصادرته من أشياء، سواء كانت مستعملة أثناء ارتكاب فعل جرمي معيَّن أم بوصفها من مستلزماته.
كذلك، نصّت عدة موادّ قانونية في معاهدات دولية صادق عليها النظام على منع تجريد الشخص من أملاكه تعسفيّاً، مثل المادة 17 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تنص على أن “لكل شخص الحق بالتملك بمفرده أو بالاشتراك مع غيره، ولا يجوز تجريد أحد من ملكه تعسُّفاً” ونصّ العهدان الدوليان للحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية على احترام حق التملُّك وصَوْنه ومنع الاستيلاء على الأموال.
من الواضح أنّ النظام خرق نصوص الدستور والقوانين المحلية والمعاهدات الدولية المصادَق عليها، خاصةً من خلال الأساليب ذات الخلفية القانونية التي يتبعها والمتصفة بعدم الدستورية ومخالفة القانون المدني العامّ، وتحديداً في القانونين رقم 19 لعام 2012 ورقم 22 لعام 2012 المتعلقين بمكافحة الإرهاب ومحكمة الإرهاب؛ حيث يتضمـن القانونان مـواد لا يمكـن أن ينجـو منهـا أحـد يخضع للمحاكمة بهذه التهمة؛ بسـبب نصوصـهما العامـة والفضفاضـة حيث دمجت جرائم التفجير والقتل والخطف مع ما اعتبرته جرائم من الوقوف بالرأي والقول ضد النظام ككتابة منشور في وسائل التواصل الاجتماعي كلها اعتبرتها جرائم إرهابية بحسب المادة 8 من القانون 19 لمكافحة الإرهاب وألزمت المادة 10 من القانون 19 المذكور أي شخص عَلِمَ أيّاً من هذه الجرائم بإبلاغ قوات الأمن عن فاعليها وإلا عُوقب بالحبس ثلاث سنوات، وصُودرت أملاكه، ومثل المـادة الرابعة من القانون رقم 22 التي نصت علـى أن يشـمل اختصـاص المحكمـة جميـع الأشـخاص المدنييـن والعسـكريين.
كذلك يتضمَّـن القانـون رقم 19 فـي المادتيـن 11 و12 أحكامـاً بتجميـد الأمــوال المنقولــة وغيــر المنقولــة للمحكوميــن ومصــادرتها، وقد عرّفت المادة الرابعة من هذا القانون المصادَرة بحرمان المحكوم عليه الدائم من الأموال المنقولة وغير المنقولة وانتقال ملكيّتها للدولة؛ أي أن القانون يتيح المصادَرة العامة بحق الشخص رغم أن دستور عام 2012 منعها بنص صريح، كمــا يُتيح القانون لهــذه المحكمــة إصدار الأحــكام الغيابيــة بدرجــة قطعيــة ومبرمــة لا تقبــل أي نــوع مــن أنــواع الاســتئناف أو إعــادة المحاكمــة ودون مراعاة أصول المحاكمات في نهجٍ يخالف أعراف الفقه الجنائي.
بالمحصّلة إن سلوك النظام في الانتهاكات المتعمَّدة بترسانة من الأساليب القانونية ينبع عن حالة همجية وانتقامية لا تقيم أيّ اعتبار لتداعيات هذه الانتهاكات غير الدستورية وغير القانونية لحقوق السوريين، ومما يؤكد أنّ النظام لا يقيم وزناً للقوانين والحقوق والدستور ويعتبر نفسه قادراً في أي لحظة على وضعها واختراقها وتطبيقها، من مبدأ أنه “فوق القانون والمحاسبة”.
ثالثاً: كيف تستفيد إيران من مصادَرة النظام أملاك السوريين؟
في كانون الأول/ ديسمبر 2023 أصدر النظام السوري القانون رقم 26 والقانون 43 القاضي إحداث هيئة عامة ذات طابع إداري تسمى (الهيئة العامة لإدارة أملاك الدولة وحمايتها)؛ بهدف حماية أملاك الدولة الخاصة وإدارتها وصيانتها واستثمارها على الوجه الأمثل.
لا تتجاوز الفترة الزمنية بين القانونين عشرين يوماً، إلا أن هناك العديد من المواد القانونية التي ستؤدي للتنازُع والتضارُب بين القانونين فمحل القانونين وموضوعهما واحد وكِلاهما قانون خاص ومتقارب زمنياً، وهو ما يبدو واضحاً لدى المقارنة بين مواد كل منهما؛ مثلما هو موضَّح أدناه:
• تنصّ المادة الأولى من القانون رقم 26 على أن تؤول ملكية الأموال المنقولة وغير المنقولة المصادرة بموجب حكم قضائي مبرم للدولة، في حين تتولى وزارة المالية إدارة الأموال المنقولة وغير المنقولة واستثمارها، عدا الأراضي الواقعة خارج المخططات التنظيمية، وتكون إدارتها واستثمارها لوزارة الزراعة والإصلاح الزراعي، كما تؤكد المادة السادسة من القانون ذاته على أن تطبيقه على الأموال المنقولة وغير المنقولة المصادرة يسري على كل حكم قضائي مبرم سواء صدر قبل نفاذ هذا القانون أو بعده.
• بالمقابل تتعارض نصوص القانون رقم 43 مع جوهر القانون رقم 26 ؛ حيث تنصّ المادة الأولى منه على تعريفها أملاك الدولة الخاصة بأنها “العقارات المبنية وغير المبنية والحقوق العينية غير المنقولة التي تخص الدولة بصفتها شخصاً اعتبارياً بموجب القوانين والأنظمة النافذة سواء كانت تحت تصرُّفها الفعلي أم تحت تصرُّف أشخاص آخرين”، وأكدت المادة الثانية على إحداث هيئة عامة ذات طابع إداري تسمى الهيئة العامة لإدارة أملاك الدولة وحمايتها مقرها دمشق، وتتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري، وارتباطها بالوزير، كما شددت المادة الثالثة على أن هدف القانون إدارة أملاك الدولة الخاصة وحمايتها على الوجه الأمثل وصيانتها واستثمارها بما يحقق موارد ثابتة ودائمة للخزينة العامة للدولة. أما المادة الرابعة فنصّت على أن تتولى الهيئة تنفيذ أحكام قانون أملاك الدولة رقم 252 لعام 1959 وقانون الإصلاح الزراعي رقم 161 لعام 1958 وتعديلاتهما.
• منح القانون رقم 26 وزارة المالية حق الولاية والإدارة لأملاك الدولة والعقارات المصادَرة قضائياً بأثر رجعي، في حين أن قانون هيئة حماية أملاك الدولة 43 حدد للهيئة الولاية على هذه العقارات. وهذا دليل تنازُع في القانونين على محل اختصاص وموضوع واحد ومحدد، وكون القانون 26 و 43 قوانين خاصة تقيد النصوص العامة، خاصةً أن القانون 46 صدر بعد القانون 26 زمنياً فهو مقيِّد له ولم يذكر ضِمن نصوصه أي استثناء أي لم يستثنِ العقارات التي آلت ملكيتها للدولة بموجب حكم قضائي بالمصادَرة، بل منح الهيئة حق إدارة أملاك الدولة، وأناط لها مهمة تنفيذ قانون الإصلاح الزراعي وتعديلاته وقانون أملاك الدولة الذي نصّ بمادته الثانية الفقرة 11 : تشمل أملاك الدولة العقارات التي تؤول ملكيتها للدولة بموجب القوانين النافذة بشكل عامّ، مما يُعَدّ سابقة تاريخية وقانونية في سورية يندر حدوثها سابقاً، وهذا مؤشر يدعو للاستنتاج بوجود جهتين تشرعان -على نحو متناقض- القوانين، وتريد كل جهة أن تجعل إدارة أملاك الدولة وأصولها خاصة العقارية للطرف الذي تسيطر عليه، وهذا مؤشر قوي على تشتّت قانوني وإداري واضح.
يُتوقّع أنّ الفريقين المتنازعيْنِ على إدارة أملاك الدولة والأموال المصادَرَة هما فريق أسماء الأسد الصاعد الجديد في مركز القرار والساعي لاستثمار هذه الأموال بعوائد ثابتة طويلة الأجل؛ بهدف صناعة حالة من النمو والتوازُن الاقتصادي تحمي النظام وتطيل عمره، فيما يُمثّل الفريقَ الآخرَ جَناحٌ في وزارة المالية مرتبط بإيران وحرسها الثوري بشكل قوي، والتي تسعى للسيطرة على ممتلكات الدولة الخاصة والمصادَرة بهدف تشكيل ضمان وغطاء مالي يسهِم في استعادة ديونها المُستحَقّة من النظام.
بناءً عليه، يُتوقّع أن القانون رقم 26 أُقِرّ بضغط من فريقِ وزارة المالية الموالي لإيران، نتيجة ضغوط من الحرس الثوري على وزارة المالية التي موّلها بشكل كبير منذ عام 2011[8]، مما يجعل إقرار هذا القانون متوافقاً مع مطالبها باسترداد ما أنفقته على النظام خلال سنوات الحرب، ويتسق هذا مع مساعيها في الاستثمار بسوق العقارات السوري، خاصة بعد إقرار قانون قيصر الأمريكي الذي فرض عقوبات اقتصادية على النظام السوري ومَن يتعامل معه، والذي استطاعت إيران وحرسها الثوري الالتفاف عليه، وخاصة بعد تجدُّد المفاوضات النووية بين إدارة بايدن والنظام الإيراني منتصف عام 2022؛ حيث تهدف لتوطين ميليشياتها وإحداث تغيير ديموغرافي في المنطقة داعم لأهدافها.
يُعَدّ إصدار النظام لقانونين متنازِعين في شهر واحد مؤشراً على وجود فريقين متنازعين داخل السلطة الحاكمة، يعمل كل فريق لإعطاء داعميه الحق في إدارة أملاك الدولة واستثمارها؛ فبعد أن كانت إدارة أملاك الدولة من حقّ وزارة الزراعة منح القانون رقم 26 هذا الحق لوزارة المالية، إلا أن المرسوم رقم 43 أعاد الحق لوزارة الزراعة عَبْر إنشاء هيئة اعتبارية مرتبطة بها تشرف على هذه الأملاك والأصول العقارية، التي تضخّمت على نحو غير مسبوق في تاريخ سورية الحديث والمعاصر.
بكل تأكيد لن تدخر إيران التي تدعم فكرة بيع العقارات المصادَرة بحكم قضائي ومنح الحقوق العينية عليها ومنح استثمارها لمستثمريها جهداً إلا وتمارسه لإنفاذ القانون 26 لتحقق لها وبسرعة وزارةُ المالية طموحاتها بتملُّك العقارات في المدن السورية لترسيخ التغيير الديموغرافي.
خُلاصة
أظهر النظام السوري عام 2023 استعجالاً واضحاً بإصدار مجموعة من القوانين والهياكل التنظيمية الجديدة؛ حيث بلغ عددها 83 قانوناً ومرسوماً تشريعياً، وقُرابة 364 مرسوماً تنظيمياً؛ محاولاً استغلال انشغال العالم بالحرب على غزّة وحرب أوكرانيا، وتسهيل عملية الخصخصة والتصرف بالبيع أو التأجير أو منح حقوق عينية على عقارات المواطنين بهدف خلق أمر واقع جديد، خاصةً بعد تجربته ردة الفعل الدولية والمحلية والمُهجَّرين ضدّ القانون رقم 10 لعام 2018 التي دفعته لتخفيف حدته وتعليق العمل ببعض فقراته.
تتيح هذه القوانين التي تُعتبر استكمالاً لما أصدره النظام منذ عام 2012 تهيئة الأرضية القانونية التي تسمح له بالاستيلاء على أموال وممتلكات معارضيه، وإقرار بيئة إدارية قادرة على إدارة واستثمار الأصول العقارية والأموال المنقولة وغير المنقولة التي تؤول إليه بموجب الأحكام القضائية، أبرزها القانونان رقم 26 و43 الذي يهدف كل منهما إلى الاستحواذ المباشر على أملاك معارضيه الذين صدرت بحقهم أحكام مصادَرة من محكمة الإرهاب المشكّلة بموجب قانون مكافحة الإرهاب رقم 19 لعام 2012.
تُشكّل إدارة أملاك الدولة والأموال والأصول المصادَرَة مورداً مهماً في ميزان القوى المسيطرة؛ حيث أصدر بشار الأسد قوانين لتملُّك الأموال المصادَرة وإدارتها، كما أصدرت الإدارة الذاتية التابعة لقوات سورية الديمقراطية (قسد) عام 2018 قانوناً لإدارة أموال الغائبين في مناطق سيطرتها، لكنها أيضاً اضطرت لتعليق العمل به تحت ضغط رفض دولي ومحلي. من المحتمل أن تعود قسد لتفعيل هذا القانون أو إصدار قانون آخر محلّه، لا سيما بعد إصدار النظام السوري القانونين رقم 26 و43 بهدف فرض سيطرتها بشكل أوسع وترسيخ نظام مشروعها، مستغلةً ذات الظروف التي استغلها النظام.
بالمجمل يستخدم النظام التشريع والقوانين كسلاح لمعاقبة المعارضين والمناطق التي خرجت ضد حكمه عام 2011، في انتهاك متعمَّد للشرائع الدولية والدستورية والقوانين المحلية، رغم علمه أنّ الحقوق لا تسقط بالتقادم، في غضون ذلك دعمت إيران النظام عسكرياً وسياسياً ليس بمجرّد التحالف الإستراتيجي معه، إنّما لتوظيف حاجة النظام للسلاح والمال والدعم من أجل وصول إيران للتمدُّد الجغرافي في دمشق والوصول إلى البحر المتوسّط عَبْر آلية استيفاء ديون تستطيع من خلالها التملُّك وخدمة سياساتها في التغيير الديموغرافي.