لطالما اختلف الكثير من المثقفين العرب في مسألة ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأخرى. عزاها البعض إلى مزاج المترجمين وهو حق لهم، فيما أكد البعض أن الضغط الذي تمارسه مؤسسات ثقافية عربية من خلال المال الثقافي كان له دور كبير في انتقاء الأعمال الأدبية المترجمة، غير أن هناك إجماعا على أن العلاقات تؤثر بطريقة ما على ما يحدث.
الشاعر السوري نوري الجراح يقف خارج كل تلك الاحتمالات وبالأخص لأنه لا يحتمي بمؤسسة ذات سلطة. الجراح من الشعراء العرب النادرين الذين تُرجمت أعمالهم الشعرية إلى لغات أخرى من غير أن تكون له سلطة وفي غياب المال الذي يدعمه.
رجل وحيد يعيش في عزلة شعره. لم يسع سوى أن يكون استثناء في لغته وهي اللغة العربية أما اللغات الأخرى فإنه يعرف أنه سيكون ضيفاً عليها. ما يهمه أن يصل صوته إلى سكان لغته وهم العرب أما لو أن شعره قد وصل إلى سكان لغات أخرى فإن ذلك أمر سينعش خياله المتمرد.
الشاعر المولود في دمشق عام 1956 صدر له أكثر من 14 كتابا شعريا من “الصبي” 1982 حتى “فتيان دمشقيون في نزاهة” 2024، كما صدرت كتب كثيرة تضم مختارات من شعره في غير بلد عربي تُرجمت قصائده في كتب بلغات أخرى هي التركية والفارسية واليونانية والفرنسية والإيطالية والكورية والإسبانية والهولندية والإنجليزية ونال جائزة ماكس جاكوب في فرنسا وجائزة بريمو نابولي في إيطاليا.
لم يتذكره العرب الذين يكتب بلغتهم بجائزة. لدى العرب شروط قد لا يراها الجراح مناسبة له. ولكن لماذا يُترجم شعر نوري الجراح دون سواه من الشعراء العرب المعاصرين إلى اللغات الأخرى؟ ربما لأنه أجاب على سؤال حرج من نوع “ما الذي يفعله الشاعر أو الفنان في الأوقات العصيبة؟”، وسوريا وهي بلده الذي غادره منذ أكثر من أربعين سنة تعيش زمنا عصيبا.
ولكن كيف تمكّن من ذلك؟ ذلك هو السؤال الأهم. لا أحد من شعراء العربية الآن يملك ثقة بالأمل مثل الجراح. فهو حين أمسك باللحظة الراهنة تسلل من خلالها إلى قوة بلاده ونضارتها وفتنتها وجمالها عبر العصور.
لقد رأى سوريا وهي تهب العالم أكثر أفكاره رفعة وأنقى نسائه جمالا وأعلى لحظاته نزاهة وأشد فنونه فتوة. يوما ما كانت سوريا هي العالم وهي سوريا التي يستحضرها نوري الجراح في شعره.
وهو إذ يكتب بلغتها العربية فإن الآخرين نقلوا أشعاره إلى كل اللغات التي كانت تتكلّمها. سوريا العربية هي ذاتها سوريا المتوسطية. لغة أحلامه كانت مزيجا من اللغات وهو ما دفع المترجمين إلى نقل شعره إلى اللغات الأخرى. بين سطور قصائد نوري الجراح تقيم لغات كثيرة.
فاروق يوسف – العرب