علا محمد-أورينت
في السادس من شباط/فبراير من عام 2023، ضرب زلزال مدمر بقوة 7.8 على مقياس ريختر جنوب تركيا وشمال سوريا، وبلغ عدد الذين قضوا في هذا الزلزال أكثر من40 ألفاً في حصيلة غير نهائية، عدا عن دمار آلاف المنازل، وتشرّد آلاف العائلات في كلا الدولتين. صحيح أن الزلزال قد أحدث دماراً في البنية التحتية، إلا أنه لم يُسقط المباني فقط.
إلى الآن لم يتضح بشكل نهائي حجم الدمار المهول للزلزال، ولم يتضح بعد حجم الدمار النفسي لمن تضرر من الزلزال سواء من تم إنقاذه من تحت الأنقاض، أو من عايش لحظاته، خاصة الأطفال والذين غيّب الزلزال أحباءهم. مع الوقت سيظهر ما كانت تخفيه النفوس، وما كانت تخفيه الأنقاض بعد عملية الرفع التي ما تزال مستمرة بجهود جبارة من فرق الدفاع المدني.
يمكن القول إن المواقف الحقيقية تظهر وقت الأزمات، وما كان مشكوكاً فيه يتم التأكد منه في الأزمات أيضاً، والظاهر أن الزلزال الأخير قد كشف عن المواقف الحقيقية للعديد من الجهات التي ادعت أنها ليست كذلك قبل الزلزال. موقع ميدل إست آي البريطاني، يقول بما معناه: الزلزال الأخير في تركيا وسوريا كشف الوجه الحقيقي للغرب، وهذا الغرب يبدو أنه يهتم بالحرب والتدمير أكثر من اهتمامه بالإعمار، وهذا الزلزال يشكّل فرصة لتكريس القيم الإنسانية وإحيائها، ولكن الغرب يهتم فقط بحرب أوكرانيا. بالإضافة إلى ذلك، غابت أخبار الزلزال عن وسائل الإعلام الغربية وحلّت محلّها أخبار زيارة الرئيس الأوكراني، وتم إنفاق أكثر من 2 مليار دولار على الدعم العسكري لأوكرانيا من بريطانيا فقط، بينما كانت حصة المساعدات لمتضرري الزلزال قرابة 6 مليون دولار.
عزّز الزلزال عند السوريين فكرة التآمر على الثورة السورية من قبل المجتمع الدولي، وبالذات الأمم المتحدة التي تعاملت بكل برود مع الكارثة في شمال غرب سوريا، وكأن ما حصل مجرد شيء بسيط ولا حاجة للاستنفار. هذا السقوط الأخلاقي للأمم المتحدة تم تبريره بطريقة سخيفة جداً، ما زاد من صحة فرضية التآمر على من ثار ضد هذا النظام المجرم من قبل الأمم المتحدة، وعزز من فكرة الشراكة بين النظام والأمم المتحدة في التضييق على السوريين في شمال غرب سوريا رغم المصاب الهائل الذي أحدثه الزلزال.
قبل الزلزال، كانت الحدود على اختلاف أنواعها (سياسية وعسكرية وثقافية…) سميكة للغاية بين الجغرافيات السورية، إلا أن هذا الزلزال نسف تلك الحدود، وبيّن أن تكاتف السوريين في مناطق السيطرة المختلفة أكبر من تلك الحدود، وبيّن أن السوريين في تركيا والأتراك من غير العنصرين ليس بينهم أي خلاف، ووجّه رسالة للعنصرين مفادها: كل سكان المنطقة على صعيد واحد، وعليهم أن يتكاتفوا. وكشف الزلزال أيضاً مدى هامشية الخلافات بين الفصائل وتفاهتها، وأسقط فكرة استعصاء التطبيع بين الدول ذات الخلافات التاريخية الطويلة، وهذا ما حدث بين تركيا واليونان، وتركيا وأرمينيا.
منذ الثواني الأولى للزلزال، سقطت أقنعة الفساد، الفساد الذي جعل من شركات البناء ومهندسيها يبيعون دينهم ونفوسهم بدنيا غيرهم لأجل المال. فقد كشف الزلزال مدى هشاشة كثير من الأبنية، سواء في تركيا أو سوريا، أيُعقل أن تلك الأبنية لم تتحمل اهتزازاً لمدة ثلاث ثوانٍ؟ هذا ما دفع السلطات التركية لاعتقال العديد من المهندسين. والحقيقة أن مثل هذا الأمر لا بد أن يشمل كل سوريا، فالموضوع خطيرٌ جداً، وخاصة إن لم تُؤخذ هندسة الأبنية المقاومة للزلازل بعين الاعتبار.
أسقط الزلزال قناع الوطنية لدى الائتلاف والحكومة المؤقتة، حيث كشف مدى هامشية الدور الذي تلعبه تلك الكيانات، فحتى تحركهم لفعل شيء ما في هذه الكارثة يحتاج لإذن، وأوصل الزلزال النظام السوري إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه الدناءة والإجرام بسرقته للمساعدات وتوزيعها على الميليشيات. وإن لم ندرك أن ما بعد الزلزال ليس كما قبله، وسعينا للتعامل مع الوضع الجديد بكل قوانا؛ فإن النظام من الممكن أن يحقق مكاسب كبيرة على حساب كل المشاريع السياسية في سوريا.
إضافة لما سبق، أسقط الزلزال الفكرة التي تتحدث عن تراجع الدور الإيراني في سوريا، فزيارة رئيس الحرس الثوري، وقادات من الحشد الشعبي العراقي إلى مدينة حلب قبل أن يصل بشار الأسد إليها؛ يوضح مدى أهمية حلب بالنسبة لإيران، ومدى تعاظم دورها في سوريا عامة وشمالها القريب من تركيا خاصة.
أخيراً، يمكن القول إن كل حدث في سوريا هو سياسي بالضرورة، وبالتالي، لا غرابة من تلك الأقنعة التي سقطت، أليست السياسة مصالح؟ أليست مفرّغة من الأخلاق؟ أليست فن استغلال الفرص؟ ولكن، ورغم المصاب المهول، كان تكاتف السوريين في نجدة بعضهم بذرة أمل في هذه الحياة المقيتة، وصفحة ناصعة سيسجّلها التاريخ إلى آخر يوم في الدنيا.