غلوبال جستس سيريا نيوز – تحقيقات ومتابعات – حازم العريضي
يتلازم الحديث عن دور محافظة السّويداء في المشهد السّوري على مدار سنوات الثّورة منذ 2011 مع اعتداد النّشطاء السّياسيّين بامتناع عشرات الآلاف*1 من شباب جبل العرب (محافظة السّويداء) عن الالتحاق بـ”جيش النظام”.
ويؤكّد الأشخاص الواردة شهاداتهم في هذا التقرير المطوَّل أنّ هذا الموقف كان رفضاً للمشاركة في قتل مواطنيهم السّوريّين أو “الموت بيد أخوتهم”، وفق تعبيرهم.
إلّا أنّ “التخلّف عن الخدمة الإلزامية” أو “الانشقاق عن الجيش”، بحسب مصطلحات النّظام، كان له أثمان جماعية وفرديّة وصلت في بعض الحالات إلى مستوى تضحية القدّيس ماكسيميليان*2، ولم تنل هذه المصاعب نصيبها من الاهتمام والرّصد، وهو ما نحاول فعله، من وجهة نظر حقوقيّة، في هذا التقرير.
ويتّفق كثر في سوريا أنّ موقف السّوريّين الممتنعين عن الالتحاق بقوّات النظام موقف أخلاقي ولا بدّ من عدّه منسجماً مع فلسفة حقوق الإنسان، وذلك أسوة بـ “الاستنكاف الضّميري من الخدمة العسكرية” *3.
ثمن المخاطرة برفض أوامر قتل المدنيّين
يؤكد المفكّر السّوري الدكتور خلدون النبواني أن عموم الذين رفضوا الخدمة العسكرية (من رافضي التجنيد الإجباري والضّبّاط المتطوعين المنشقّين) في سوريا، في ظل الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبها النّظام بحقّ المدنيّين في سنوات الثّورة منذ 2011، اتّخذوا موقفاً مبرَّراً من النّاحية الأخلاقية وقد وجدوا أنفسهم على مقربة من “التّورّط في حقل دماءٍ لأشخاصٍ أبرياء” إلّا أنّهم باتوا في مواجهة “إدانةٍ قانونيّةٍ قد تنتهي بالإعدام” وفق “القوانين العسكريّة” في الدّول الدكتاتوريّة والشّمولية (النّظام السّوري موضوع نقاشنا هنا).
تضحيات الضّباط الرّافضين لحمل السّلاح ضد المدنيّين
أبو سليم*4، من محافظة السّويداء، ضابط سابق في “جيش النظام” غامر بحياته وانشقّ عن قوّاته منذ عام 2012.
ويوضّح أبو سليم أنّه لم يجد مهرباً من الانشقاق سبيلاً لعدم التّورّط في قتل المدنيّين بعد أن جاءته، لأوّل مرّة في تجربته، أوامر من القيادات العسكريّة تُلزمه بقصف الأهداف المدنيّة والتّعرّض للأهالي بشتّى الانتهاكات، لكنّ تمكّنه من ترك النّقطة العسكريّة التي كان مسؤولاً عنها في ريف مدينة حمص لم يكن نهاية المطاف، إذ أنّه آثر عدم حمل السّلاح أيضاً في الاتّجاه المعاكس مع فصائل المعارضة التي كانت قد بدأت للتو بالتّشكّل بقصد الدّفاع عن الأهالي والمظاهرات السّلمية في وجه قصف النّظام العشوائي المُستهدِف للمناطق والأهداف المدنيّة.
يؤكد أبو سليم أن كثيراً من الضّبّاط والجنود تمكّنوا في تلك الفترة من التّنصّل من حمل السّلاح مع النّظام إلّا أنّ ذلك كان له ثمنٌ باهض، ففي تجربته وبعد مغادرة منطقة ريف حمص بمساعدة الأهالي لم يكن أمامه إلّا الخروج خلف الحدود إلى إحدى دول الجوار لأنّ توجّهه إلى السّويداء، حيث يقطن أهله، كان سيعني تعرّضهم للمساءلة وربما الاعتقال التّعسفي من مخابرات النظام في دمشق. وعليه أمضى أبو سليم، ومثله عددٌ لا يستهان به من الشّخصيات، سنوات بعيداً عن الأنظار يساعده في تأمين معيشته أحد أشقّائه المغتربين إلى أن تمكّن من العودة إلى منزله سالكاً طرق التّهريب التي لا تخلو من المغامرة، وليبقى في منزله لقرابة السنتين وسط تكتّمٍ على وجوده إلى أن تغيّرت الظّروف في محافظة السّويداء وتراجعت سطوة النّظام هناك بفعل الحراك الشّعبي.
يُذكر هنا أنّ العديد من الضبّاط السّوريّين من أبناء محافظة السّويداء اتّخذوا خيار الانشقاق عن قوات النّظام مطلع الثّورة السّوريّة واشتُهر من بينهم العقيد حافظ فرج الذي حُرم لسنوات من عائلته التي بقيت في السّويداء بينما هو في إحدى دول اللجوء، واشتُهر أيضاً الملازم أول المهندس خلدون زين الدّين الذي استُشهِد بنيران قوات النظام بعد انشقاقه.
التناقض بين حقوق الإنسان والقوانين العسكريّة
ينبّه د.خلدون النبواني إلى ضرورة “التّحدّث عن الجانب الأخلاقي المؤسّس للجانب القانوني حينما نتحدّث عن حقوق الإنسان”، ويضيف “لا بدّ من الإشادة والتأكيد على أنّ إلقاء السّلاح والامتناع عن تنفيذ الأوامر بقتل المدنيّين موقفٌ يجسّد الواجب المقدّس وليس تنفيذ الأوامر العسكريّة باسم حماية الوطن وغيرها من الكلمات المُستخدَمة لتبرير الجرائم”، ويشير خبراء القانون إلى أن هناك تناقضاً ما بين القانون العسكري في سوريا وبين قيم حقوق الإنسان مع التمييز بين وضعيّة المتطوّع في الجيش بوصفه متعاقداً “ملتزماً قانوناً”، وفق رغبته، بالقبول بقوانين “الجيش السّوري” وبالتّالي قد يُعَدّ مُخِلّاً بشروط الالتزام في حال مخالفة الأوامر وبين الخاضع لقانون الخدمة العسكريّة الإلزاميّة إذ أنّه قانونٌ يتنافى مع حقوق الإنسان صراحةً بما فيه من إجبار وإكراه للشّخص، ويوضّح د. النّبواني أنّ القانون العسكري في الدّول الشّمولية بخلاف الدّول الدّيمقراطية “لا يترك له (الفرد) حريّة اتخاذ القرار وحريّة الضّمير والاختيار، علماً أنّها مبادئ أساسيّة في حقوق الإنسان، وعليه يكون حقّ الاستنكاف الضّميري مُبَرّراً”.
بدوره المحامي أيمن شيب الدّين يشير إلى أنّ قرار الضّابط المنشق يحمل موقفاً سياسياً قد يتيحه “المناخ الآمن نسبيّاً من ملاحقة النّظام منذ عام 2018 في السّويداء”، وذلك بخلاف الظّرف في محافظتي طرطوس واللاذقية، حتّى اللحظة، وباقي مناطق سيطرة النّظام في حمص وحماة ودمشق وريفها.
وبشأن مسألة “التّخلّف عن الخدمة الإلزامية” يبيّن شيب الدّين أن “الوصف القانوني يشير إلى التّخلّف بوصفه (جرم الفرار) بينما الواقعيّة تقتضي وصف هؤلاء بالرّافضين للالتحاق بقوات النّظام لأن القانون المتعلّق بهذا الشّأن “إخضاعي وإلزامي” والنّظام السّوري يستثمره سياسيّاً بما يتلائم مع مصالحه بمعزلٍ عمّا تقتضيه المصلحة العامّة، والمثال على ذلك هي فكرة “التّسوية” (تسوية وضع المتخلّفين عن أداء الخدمة العسكرية)، ويؤكّد المحامي شيب الدّين أن “فكرة التّسوية لا جذر ولا سند قانونياً لها” وإنما يستثمرها النظام سياسيّاً ليشمل ما يسمّى “قانون العفو الرّئاسي” الرّاغبين بالتّراجع عن موقفهم والالتحاق بـ جيش النظام، في ما لو حصل ذلك، مقابل انخراطهم في معارك ضدّ سوريّين آخرين، وبذلك يشمل هذا العفو المُلاحقين بـ “جرم الفرار الداخلي أو الخارجي” مقابل التّورّط بارتكاب انتهاكات بحقّ المدنيّين.
رأي “المتخلّفين” عن الخدمة الإجبارية وظروفهم
من جهته، الرّئيس السّابق للمنظّمة العربية لحقوق الإنسان مروان حمزة، وهو اليوم ناشطٌ سياسي من “ساحة الكرامة”، يبيّن أن مصير الشباب الرّافضين للالتحاق بقوات الأسد متوزّعٌ بين ثلاث حالات، فمنهم “من هاجر خارج البلاد سالكاً طرق التّهريب إلى لبنان ومنه إلى أربع أصقاع المعمورة، ومنهم نسبةٌ توجّهت إلى العراق في بغداد وآخرون في أربيل وأكثر من منطقة هناك”، وأما الحالة الثّانية فيقول السّيد حمزة “فئة صغيرة من الذين هاجروا خارج البلاد أخذوا خيار دفع البدل النّقدي (بدل الخدمة العسكرية)، وليس بالإمكان تحديد عدد هؤلاء بدقّة، إلّا من خلال شُعب التّجنيد”، ويعدّ حمزة أنّ الأبرز في الموضوع هو نُدرة الالتحاق بالخدمة الإلزامية، وهنا يؤكد أنّ ذلك واضحٌ في الحالة الثالثة وهي “انخراط معظم شباب الجبل (جبل العرب) في ساحات الحراك وأغلبهم إمّا مطلوبون للخدمة أو طلّاب يتابعون دراستهم في الجامعات رغم الظّروف المعيشيّة الخانقة”.
ومن بين هؤلاء الشّباب التقينا (س. الصّحناوي)*5 وعن موقفه في رفض الخدمة الإلزاميّة يقول “ليس لدى أي أحد الحق في معاملة الناس مثل العبيد وليس لديهم (سلطات النّظام) الحق في حرماننا من حقوقنا وحريّاتنا”، ويُبدي رفضه التزام “قانون ودستور النظام” كما يسمّيه، مبرّراً أنه “لا ينطبق على أولادهم (القائمين على السّلطة) والذي احترفوا خرقه”، ويضيف “لا أقبل أن يزجّني هذا النّظام في معاركٍ جميع خسائرها من إخوتي السّوريين لتنفيذ مصالحه الشّخصية والطائفية”.
وبالنّسبة لظروفه الشّخصيّة يشرح (س. الصّحناوي) كيف اضطرّ لدفع نحو 900$ للحصول على جواز سفر على نحوِ استثنائي بعد ذهابه إلى لبنان بطريقة غير شرعية محفوفة بالمخاطر كحال كثرِ من الشّباب، على حدّ قوله، فضلاً عن حرمان هؤلاء من أهلهم وحرمان آلاف المتبقّين في الداخل من حريّات التّنقّل أو السّفر بطريقة شرعية والحرمان من حقوق العمل والتّعليم الرّسمي وإجراء المعاملات الرّسميّة مثل الزّواج ونقل الملكيّة العقارية وغيرها أو الإجراءات القضائية في المحاكم، ومعظمها يلزمه “موافقة أمنية” (موافقة الفروع الأمنية التّابعة للنّظام) أو موافقة شعبة التجنيد العسكرية في بعضها، وفي ذلك قضايا وقصص كثيرة يلزمها تقارير أخرى للخوض في تفاصيلها.
حماية الرّافضين للالتحاق بالخدمة الالزاميّة في السّويداء
تكفّل المجتمع الأهلي في السّويداء بحماية رافضي الالتحاق بقوات النّظام في بعض الأحيان، وفقاً لقدرته على ذلك، وأخفق في أحيان أخرى تبعاً لعجزه عن تقديم الغطاء في مواجهة تهديدات النّظام إلى أن انطلق الحراك السّلمي الأخير صيف 2023 وأثبت، حتّى وقت كتابة هذا التّقرير، أنّه الأقدر على حماية الشّباب وجعلهم أحراراً في اتخاذ الموقف المنسجم مع ضميرهم والامتناع عن التّورّط في الانتهاكات بحق الأبرياء.
ومن المحاولات السّابقة لذلك كانت حركة “رجال الكرامة” بقيادة الشّيخ وحيد البلعوس لمقاومة اعتقال شباب السّويداء وسوقهم مرغمين إلى الخدمة الإلزامية على قاعدة “تحريم سفك دماء السّوريّين” و”عدم خوض أبناء الجبل في هذه المقتَلة” على حد تعبير الكاتب الصّحفي حافظ قرقوط، والذي يشير إلى أن عناصر في قطاع الشّرطة من أبناء المحافظة استفادوا أيضاً من هذه الحماية حينها بالإضافة إلى عدد من الضّبّاط المتقاعدين الذين طلبهم النّظام للالتحاق بخدمة الاحتياط، وفي هذا كان للعائلات دورٌ بارز.
مصير الذين تنصّلوا من حمل السّلاح
يشير د.خلدون النّبواني إلى أن قرار رفض حمل السّلاح يصبح قراراً فرديّاً بداعي أنّ ذلك يتنافى مع ضمير هذا الفرد ويمكن تبريره في القانون الدّولي من مبدأ تعارض قتل الأبرياء مع قوانين الحرب، وبالتّالي يمكن “تبرير مخالفة عصيان الأوامر العسكريّة في مرحلة لاحقة قانونيّاً، في إشارة إلى مرحلة سقوط النّظام، إن حصل في المستقبل واستُبدل بنظام سياسي يتبنّى دستوراً وقوانين عسكريًة تراعي قضايا حقوق الإنسان المرعيّة في القانون الدّولي.
ويبقى أن نشير في نهاية هذا التّقرير إلى أن الحق*6 في الاستنكاف الضّميري محميٌ بموجب القانون الدّولي لحقوق الإنسان، بما في ذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (UDHR) والعهد الدّولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (ICCPR).
“أُنتجت هذه المادة الصّحفية بدعم من منظّمة صحفيّون من أجل حقوق الإنسان الكنديّة وبرنامج الأمم المتّحدة للديمقراطيّة”.
*1 تشير تقديرات نشطاء حقوقيّين إلى أن نحو 40 ألفاً من أبناء محافظة السّويداء امتنعوا عن الالتحاق بقوات النظام السّوري منذ واجه المظاهرات المنادية بإسقاطه في عام 2011 بالقتل والاعتقال والتهجير.
*2 ماكسيميليانوس هو ابن أحد قدامى الجنود الرومانيين، وهو أول مستنكف ضميري في التاريخ، إذ دعي عند بلوغه سن الحادية والعشرين في عام 295 ميلادي إلى الالتحاق بفيالق الجند الرومان. غير أنه أعلم حاكم ولاية نوميديا أنه لا يستطيع، بدافع من قناعاته الدينية، الانخراط في سلك الجندية، وأصرّ ماكسيميليانوس على رفض ذلك فأُعدم. ثمّ أعلنته الكنيسة بعد ذلك قدّيساً فأصبح اسمه القدّيس ماكسيميليان.
*3 ( Conscientious objection to military service)
الحق في الاستنكاف الضميري من الخدمة العسكرية معتَرفٌ به كحق أساسي من حقوق الإنسان. ويعني الحقُ في الاستنكاف الضّميري أن للأفراد الحقَ في رفض أداء الخدمة العسكرية والإعفاء من الالتزامات العسكرية إذا كانت لديهم معتقدات دينية أو أخلاقية أو فلسفية تحظر استخدام العنف أو المشاركة في النزاعات المسلحة.
*4 “أبو سليم” اسم يكنّى به الشّاهد في التقرير، وهو اسمَ بديل لاسمه الصّريح.
*5 تمّت تورية بعض الأسماء وفق طلبهم مع وجود تسجيلات أٌجريت بمعرفتهم توثّق شهاداتهم.
*6 منشور مكتب المفوض السّامي حقوق الإنسان بشأن “الاستنكاف الضميري عن الخدمة العسكرية”.