نبيل عبدالفتاح- الأهرام
واحدة من المشكلات الكبرى المتفاقمة فى عالمنا العربى تتمثل فى أزمات الانتماء الوطنى التى ارتبطت بالدولة الوطنية ما بعد الكولونيالية، فى ظل مجتمعات انقسامية مجزأة -دينيا ومذهبيا، وعرقيا، وعائليا وعشائريا وقبائليا، ومناطقياً – ، تجمع هذه المكونات الأساسية منطقة جيوسياسية محددة، تم تحديد مكوناتها وحدودها على نحو اصطناعى، بعد اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 فى ظل الحكم الكولونيالى – الإدارة الفرنسية المباشرة، والبريطانية غير المباشرة – أدى بعض التعليم إلى تكوين نخب جديدة صغيرة نسبيا فى إعدادها بجوار النخب التقليدية للمكونات الأساسية المختلفة، وتم توظيف بعضهم فى الإدارات الاستعمارية. كان تركيز الإدارات الاستعمارية فى العالم العربى على توظيف مجموعات من الموظفين داخل جهاز الإدارة، وتميزت نظم الإدارة غير المباشرة البريطانية بترك النخب المحلية لإدارة شئون هذه البلدان اليومية والإدارية والقانونية من خلال بعض المؤسسات، إلا أنها ظلت لديها اليد العليا خاصة فى بعض الأجهزة الإدارية.
الطابع الانقسامى فى مكونات بعض المجتمعات العربية، أدى إلى تشكيل ذاكرات تاريخية لكل جماعة من الجماعات التكوينية، وتاريخ مواز لتاريخ المجتمع فى هذه البلدان التى كانت تحت سيطرة الحكم العثمانى، ثم الاستعمار الغربى الفرنسى والبريطانى والإيطالى، وذلك فى موازاة مع تاريخهم المشترك وخطوطه الجماعية، خاصة مع خضوع هذه المجتمعات ومكوناتها للاحتلال الكولونيالى. ساهمت الحركات الوطنية الساعية للتحرر فى تشكيل بعض الموحدات الجماعية العابرة لهذه المكونات الأساسية، ومع ذلك ظلت بعض الانتماءات لهذه المكونات – المرجعية لدى بعضهم- جزءاً أساسيا، من تشكيل قادة بعض حركات المقاومة للمحتل الأوروبى الغاشم .
عقب الاستقلال عن الكولونياليات الاوروبية وعمليات بناء الدولة الوطنية، قام بعض آباء الاستقلال وأتباعهم، بالتركيز على دعم مواقعهم فى بناء أجهزة الدولة -اعتمادا على أجهزة الإدارة الاستعمارية السابقة – على بعض ممن ينتمون إلى مكوناتهم الأساسية فى ظل الخطاب الأيديولوجى حول الوطنية والاستقلال، والمساواة، والكفاءة، ومعاداة الاستعمار، ورأسمالية الدولة الوطنية فى عديد البلدان العربية.
ركزت السياسات الاقتصادية لغالب هذه الدول على العواصم والمدن الكبرى، فى مشروعاتها الاقتصادية، وفى البناء، دون الاهتمام بعدالة توزيع السياسات التنموية على جميع المناطق الريفية، والحضرية، والبوادى والمناطق الصحراوية فى هذه البلدان.
لا شك أن الخلل التوزيعى فى سياسات التنمية أشكال رأسماليات الدولة الوطنية، وغياب العدالة التنموية فى بعض الدول، أدى إلى تكريس الإحساس الجمعى لبعض هذه المكونات الأساسية والمناطقية بالتهميش، على نحو أدى إلى فشل نسبى فى سياسات التكامل الوطنى، التى اعتمدت على سياسة بوتقة الصهر، فى دعم السياسات اللا عادلة فى التنمية.
لم تستطع الأيديولوجيات السياسية للنخب السياسية ما بعد الاستقلال أن تؤسس للجوامع السياسية والاجتماعية والثقافية الوطنية العابرة للمكونات والجماعات العرقية والدينية والمذهبية، والقبائلية..الخ، فى هذه البلدان على الرغم من صخب الشعارات التى يوزعها جهاز الدولة الأيديولوجى . من هنا كرست نخب ما بعد الاستقلال فى بعض الدول سياسات مضادة لمبادئ المواطنة والمساواة أمام القانون.
أدت هذه الظواهر، إلى ظهور وهيمنة بعض المجموعات الدينية والمذهبية والطائفية والعشائرية على مؤسسات الدولة وأجهزتها، على نحو كرس اللا مساواة، والإقصاءات، والتهميش السياسى والاجتماعى، وهو ما أثر سلبا على بناء مفهوم الوطنية فى الوعى الاجتماعى الجمعى والسياسى المعتقل، وغياب المواطنة، فى ثنايا وتفاصيل الحياة والتشريع وسياسة اللاسياسة، وهو ما أدى إلى تنشيط الثقافات الخاصة لكل مكون من مكونات المجتمعات الانقسامية فى بعض المجتمعات العربية.
ساهمت هذه السياسات الدينية والمذهبية، فى التوظيف السياسى والمذهبى للدين فى التشويش على مفهوم الوطنية العابر للانتماءات الدينية والمذهبية والخلط بين مفاهيم الايمان الدينى وبين مفاهيم الوطنية والانتماء بين الدينى والوطني. أدى التوظيف السياسى للدين سلطويا، ومذهبياً وطائفيا إلى توظيفات مضادة من بعض الجماعات السياسية الإسلامية والطائفية فى مواجهة مفهوم الوطنية لصالح الفكرة الإسلامية الجامعة – ودولة الخلافة والدولة الإسلامية -، وهو ما ساهم فى إضعاف الفكرة الوطنية، لدى قطاعات واسعة من الأغلبيات الشعبية، فى ظل أنماط التدين الشعبى فى بعض المجتمعات العربية. أدت هذه التغيرات إلى هيمنة حس ووعى اجتماعى جمعى لدى المكونات المهمشة – دينيا ومذهبيا وعرقيا وعشائرياً..الخ – بهوياتها الخاصة، وتاريخها المتمايز عن التاريخ الوطنى نسبيًا، ومن ثم إلى صراعات هوياتية ضارية، وإلى حالة من الحرب الهوياتية المتخيلة، بقطع النظر عن لا تاريخيتها، وتجاوزاتها عن المشركات العابرة لهذه المجموعات على الصعد الوطنية الجامعة، خاصة فى ظل الضعف والهشاشة الهيكلية للدولة الوطنية ما بعد الكولونيالية ، وعدم قدرة النخب السياسية المتعاقبة على بناء سياسات للتكامل الوطنى حول هوية جامعة عابرة لمكوناتها الأساسية. أدت تحولات ثقافة الاستهلاك المفرط بديلا عن السياسة المعتقلة ، -وضعف مؤسسات وسياسات التنشئة الاجتماعية والسياسية – إلى تفاقم أزمات الانتماء الوطنى، لمصلحة عمليات التحول إلى الفردانية، والمصالح المرتبطة بها، فى ظل غياب الحياة السياسية المفتوحة على التعدديات، والتعبير عنها، وتمثيلها لمصالحها فى المؤسسات السياسية السلطوية. أدت سياسات التعليم، وإنشاء المدارس والجامعات الأجنبية الخاصة – لأبناء الميسورين، فى بعض البلدان العربية – ، إلى المزيد من الانقسامات، بين المواطنين والتمايز الاجتماعى بينهم، وهو ما أثر سلبا على الوحدة الوطنية ، واللغة العربية كجامع مشترك بين الأجيال المختلفة من طلاب المدارس والجامعات الأجنبية الخاصة، وباتت تمثل مؤسسات لإنتاج التمايزات، والانقسامات الطبقية، والاجتماعية.
من ناحية أخرى أدت ثقافة الاستهلاك المفرط إلى تفكك فى بعض الانتماءات الجماعية، إلى أنماط من التذرى، والتشظى الفردى، وبعض من اللا مبالاة النسبية بالقضايا الكبرى الوطنية، وفى ذات الوقت تزامن هذه التوجهات حول رغبات ودوافع الذاتيات الفردية، ومصالحها الاستهلاكية – أيا كانت قدراتها الاقتصادية على الوفاء بمطالبها الإستهلاكية المفرطة – مع نهاية عالم السرديات الكبرى حول الايديولوجيات السياسية الكبرى، والمفاهيم الوطنية ما بعد الاستقلال، وتفككها، وعدم تمثل الأجيال الشابة لها – جيل زد وألفا – فى ظل الحياة الرقمية. من هنا باتت قضايا الانتماء الوطنى، والوطنيات العربية المتعددة – التى لم تستكمل بعض شرائطها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدولية – لم تعد تشغل اهتمامات ومصالح هذه الأجيال وفى مواجهة تحدى انفجار مشكلات عديدة وطنية وطبقية وفردية، وايضاً على مستوى الوعى السياسى المأزوم وموت السياسة، والوعى الاجتماعى والثقافى المضطرب والمشوش!. لاشك أن هذه الوضعيات المأزومة، والوعى المشوش – فى ظل ثقافة السطحية والرداءة الرقمية والفعلية – تحتاج إلى إعادة تأهيل مؤسسات التنشئة التعليمية، والسياسية، والثقافية فى غالب البلدان العربية.