إبراهيم الجبين
لن يطول الوقت حتى تتكشف أكثر طبيعة السباق المحموم للتطبيع مع نظام الأسد، سواء كان ذاك التطبيع عربياً أم تركياً أو دولياً. وسوف يزيد من جلاء غموض الدعوات إلى لقاء الأسد، نفاذ صبر الأطراف المستفيدة أو تلك المتضررة من التطبيع معه.
تريد الجهات المنبثقة عن حزب العمال الكردستاني PKK وفروعه في سورية (مسد وقسد) تشجيع التطبيع العربي مع الأسد على أن يكون مترافقاً مع “اعتراف” رسمي بالوضع الذي حاولت خلقه من طرف واحد، ومن ثمّ فرضه على الشعب السوري، وهو شكل من أشكال الإدارة الذاتية غير المستندة على استفتاء شعبي يشارك فيه الشعب السوري كله، وهو صاحب السيادة والأرض وله الحق في تقرير مصيره وشكل دولته.
من جهة ثانية، تريد تركيا تطبيعاً مع الأسد مبنياً على عدم “الاعتراف” بكل ما أسست له الميليشيا الكردية التركية في سورية، المدني منه والعسكري، والذي تعتبره أنقرة وغالبية السوريين نوعاً من الكيان الانفصالي، الذي سوف يهدّد وحدة سورية ووحدة الدول المجاورة لها؛ تركيا العراق أولاً، قبل أن يبدأ بتكسير حدود سايكس بيكو والحدود الدولية شرقاً وغرباً.
وعلى الرغم من أن نظام الأسد هو من خلق حزب العمال ودعمه وسلحه، وترك له الفرصة تلو الفرصة لاستباحة المجتمع الكردي في الشمال السوري في سنوات الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين، ثم عاد وأوقف تشغيله تحت التهديد التركي وتحسّن العلاقات السورية التركية ضمن اتفاقية أضنة الأمنية، إلا أنه أعاد تشغيله مجدداً في العام 2011 حين سلّطه على المتظاهرين الأكراد وسلّمه المناطق والمنشآت في محافظة الحسكة، وعقد معه الاتفاقيات الأمنية والنفطية التي لم تعد سراً. ومع ذلك فإن نظام الأسد لم يمنح رسمياً أي “اعتراف” بكل ما أعلنه هذا الحزب من إدارة ذاتية وغير ذلك من التشكيلات والهياكل، ولا يزال يهاجمها ويتهمها بالانفصالية والعمالة للأميركيين بعد أن تم استخدام هذه الميليشيات في الحرب ضد داعش، كما تم استخدام الحشد الشعبي والميليشيات الطائفية في العراق.
في العراق الذي يدعم الدعوة إلى التطبيع التركي مع الأسد، ويعرض استضافة لقاء يجمع ما بين إردوغان والأسد في بغداد لتيسير الأمر، لدى الحكومة العراقية موقف واضح حيال PKK وتشكيلاته في سورية، فهي التهديد الذي سوف يزيد من أزمة الفيدرالية المشوّهة في هذا البلد والتي قامت على التقسيم العرقي والطائفي بدعم أميركي إيراني، لم يفض إلا المزيد من التقسيم، وسط دعوات لتحويل السليمانية إلى إقليم كردي منفصل عن كردستان البارزانية.
البارزانيون أنفسهم يعيدون وباستمرار التذكير بموقفهم المبدئي ضد PKK مشددين على اعتبارهم إياه تنظيماً إرهابياً دفعوا ثمناً لتحالفه مع الإيرانيين في جبال قنديل، وخشية أن يتحول ما تم خلقه في المحافظات السورية الشرقية الثلاث إلى غول يبتلع كردستان العراق ذات يوم. وعلى ذلك فكردستان العراق تتقاطع هذه الممرة مع الحكومة المركزية العراقية ولا تمنح أي “اعتراف” لإدارة أوجلان الذاتية في الأراضي السورية.
لن يكون لدى بعض الدول الحليفة لإدارة بايدن أي رأي إذا ما تم الطلب منها أن تمنح “اعترافاً” ما بالكيان الذي يديره PKK في سورية، كما أن دولاً أوروبية ستمضي في هذا الاعتراف طالما أنه ينسجم مع الموقف الأميركي، خاصة في الظروف الحالية والحرب الروسية الأوكرانية.
إيران لا مانع لديها من المزيد من خلط الورق، فهذا سيضمن لها الفوضى التي تتيح لها اللعب، لا سيما وأنها تدير pkk بسيطرة تامة عبر القيادات التركية في جبال قنديل، كجميل بايك ومن معه. لهذا تمنع الأسد من الإقدام على أي خطوة من شأنها أن تؤثر على توازن القلق القائم حالياً.
لا تنسوا روسيا، فهي الطرف الأكثر قلقاً من تكسير الحدود، وخوفها على الجمهوريات المنضوية تحت لواء الاتحاد الروسي، وتلك القريبة من الشرق الأوسط لم يتوقف لحظة واحدة، خاصة حين تفكّر في أن هناك من سيرغب بإشغالها بحروب أخرى وجبهات غير جبهة أوكرانيا. لهذا لن يكون لديها لا النية ولا الإرادة بتقديم “اعتراف” يشعل شرارة لا تنطفئ امتداداتها إلا بعد أن تغيّر خرائط عديدة في المنطقة وما يحيط بها. ولذلك فهي تشجّع الأتراك على وضع أيديهم بيد الأسد.
راقبوا كلمة “الاعتراف” في ما سيلي من أحداث وما سيخرج من تصريحات خلال الفترة القادمة، فهي التي تتحكّّم في مسارات التطبيع والشهية في الإقبال عليه أو العدول عنه. لأسباب كهذه كنا نقول لكثير من الحمقى من السوريين الذي تسامحوا بالتواصل مع “قسد ومسد” بذرائع مختلفة: لا تمنحوا PKK أي اعتراف سيكون بداية لتفكّك سورية، وخلق كيانات طائفية وعرقية في كل شبر منها حسب أهواء الداعمين والمدعومين. لكن اللعبة أكبر منهم، وأكبر من ميليشيا مرتزقة متعددة الجنسيات جاءت إلى سورية من خارجها لتؤسس دويلة أقليات جديدة، إلى جوار دولة الأسد. ميليشيا يرحّب أحد قادتها الشكليين اليوم بالتطبيع العربي مع الأسد شريطة أن يترافق بـ “اعتراف” بإدارتهم الذاتية!.
ويمكن لمن شاء العودة إلى تحذير تم تسريبه يوم 29 من الشهر الخامس من هذا العام 2024 الجاري في صحيفة “Türkiye Gazetes” يقول إن أمريكا تريد إنشاء دولة حدودية لحزب العمال الكردستاني. كما عرض ذلك على روسيا والأسد، وأن المفاوضات حول هذه القضية سوف تبدأ في 11 يونيو. أي الشهر الماضي.
وحينها علّق الصحفي التركي جيم كوجوك: ”في الواقع، إذا تم إنشاء مثل هذه الدولة واعترفت بها أمريكا، فإن معظم الدول في جميع أنحاء العالم ستختار الاعتراف بها. وهذا وضع يهدد حدودنا”. ولم يكن غريباً أن يكون تصريح إردوغان في اليوم التالي يوم 30 من شهر مايو الذي وتحدث الرئيس التركي عن نفس القضية.
تتردّد كلمة الاعتراف مجددا كما تلاحظون بالتأكيد!.