تواصل تركيا تضميد جراحها، ورفع أنقاض ما بعثره الزلزال، ومحاولة الانتقال إلى مرحلة البناء والخروج السريع من الصدمة، لكنها تحتاج إلى من يقف بجانبها من جيران وشركاء وحلفاء أيضا. نحن نتحدث عن أرقام قد تصل إلى 50 ألف قتيل ومائة ألف جريح وعشرات الآلاف من الأبنية المتضرّرة وخسائر بمليارات الدولارات. .. تضميد الجراح أولا، ثم إعادة الإعمار، وبعد ذلك الاستفادة القصوى من دروس الزلزال، الاجتماعية والقانونية والإنسانية والاقتصادية. إلى جانب مناقشة كل هذه المسائل، هناك استحقاق سياسي ومرحلة انتقالية حساسة أخرى بانتظار تركيا، وهي الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في مايو/ أيار المقبل. من سيفوز مسألة مهمة طبعاً، لكن الأهم قدرته على التعامل مع متطلبات المرحلة المقبلة وإخراج البلاد من أزماتها.
لم يبخل الأتراك أو يتردّدوا في الوقوف إلى جانب عشرات الدول التي تعرّضت لأزمات وكوارث عديدة في العقود الأخيرة. وتركيا أكبر دولةٍ مضيفة للاجئين في العالم، وهي تحتل المرتبة الثانية على صعيد الأموال التي قدّمت للمحتاجين بعد الولايات المتحدة، وتواصل عشرات الدول ردّ الجميل لتركيا. احتمال أن تسير الأمور باتجاه فتح الأبواب أمام فرصة سياسية تستثمرها أنقرة لمراجعة علاقاتها المتوتّرة مع عواصم عديدة قائم أيضاً. ولكن السؤال الأصعب يتعلق بمعرفة من الذي سيواصل الوقوف إلى جانب تركيا في المرحلة الانتقالية، وهي تحاول بناء مدنها وقراها؟ أم أن الأمر سيتوقف بالنسبة لبعضهم عند منعطف المشاركة في انتشال الضحايا من تحت الأنقاض ومعالجتهم وتوفير الإقامة المؤقتة للمنكوبين، وإسعافهم في المستشفيات الميدانية؟
وصف الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرغ، زلزال تركيا بأنه أكبر الكوارث المميتة والمروّعة في أراضي الحلف منذ تأسيسه. وقال “تعمل الطائرات العسكرية من هولندا والنرويج والمملكة المتحدة والولايات المتحدة ليل نهار لإيصال المساعدات الدولية إلى المنطقة، إضافة إلى نقل الجرحى المطلوب إجلاؤهم”. ولكن أنقرة ما زالت تنتظر الكثير من شركائها وحلفائها في الغرب، وتحديداً من أميركا، بالمقارنة مع ما قدّمه آخرون وتعهّدوا بتقديمه.
تجاوزت لائحة الدول التي وقفت إلى جانب تركيا في الأيام الأولى للكارثة المائة دولة. قد تكون أذربيجان وقطر وإسرائيل واليونان من بين الأسرع في تقديم العون وإنقاذ من هم تحت الركام، كما أن الإمارات والسعودية ومصر ودول إسلامية وغربية كثيرة لم تترك تركيا وحدها. ومن ذلك أن 16 دولة عربية أعلنت، منذ وقوع الزلزال، عن إنشاء جسور جوية وتقديم مساعدات إغاثية وطبية عاجلة لدعم تركيا. وقد تجاوزت أرقام هذه المساعدات في الأيام الأولى للكارثة المليار دولار على شكل دعم مالي مباشر وشحنات وأجهزة طبية وخيم ومستشفيات ميدانية.
انقطعت أيضاً أنباء الخروق الجوية لخطوط الحدود البحرية بين تركيا واليونان فجأة، مع انتشار خبر وقوع كارثة الزلزال، وما زالت على ما هي عليه. كما عبرت القيادات السياسية التركية عن امتنانها لإسرائيل، ولما قدمته لأنقرة في محنتها. “موقف إسرائيل سوف ينقل العلاقات التركية الإسرائيلية إلى مستوى جديد”، كما قال وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو.
لم يفتح الرئيس الأميركي، جو بايدن، مكتبه البيضاوي أمام الوزير جاووش أوغلو خلال زيارته واشنطن في يناير/ كانون الثاني الماضي، كما فعل الرئيس التركي أردوغان مع وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان ساعة ونصف الساعة في أنقرة. كان بايدن غاضباً وقتها ربما. .. هل الزلزال هو ما دفع أردوغان لاستقبال وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، هذه المرّة في مطار أنقرة، على عجل ولأكثر من ساعة؟ هل سيتراجع الرئيس التركي عن اتهاماته واشنطن والغرب بمحاولة تدخّلهما في الانتخابات المقبلة في بلاده، نتيجة المواقف الأميركية المساندة في محنة الزلزال؟
يقول السفير الأميركي في تركيا جيف فليك إن أنقرة قامت بواجبها حيال دول العالم سنوات طويلة، وعلى العالم اليوم أن يردّ الجميل لها في محنتها التي تعيشها، لكن تصريحات جاووش أوغلو وبلينكن، في المؤتمر الصحافي المشترك خلال زيارة الأخير أنقرة قبل أيام، قطعت الطريق باكراً على فرص التفاؤل بحدوث اختراق في مسار العلاقات المتوترة في أكثر من ملف ثنائي وإقليمي. التباعد على حاله ولا مؤشّرات أو بوادر حلحلة كما ظهر جلياً، رغم كل ما قيل وكتب عن إمكانية تحويل كارثة الزلزال إلى وسيلة تقاربٍ وليونةٍ في المواقف بين الطرفين. بقدر ما تنتظر تركيا أعمال قمة الدول المانحة التي تنظمها السويد باسم المجموعة الأوروبية في بروكسل، لمعرفة حجم الدعم المالي الدولي لها لامتصاص نكبة الزلازل، تنتظر واشنطن نتيجة قمة حلف شمال الأطلسي المرتقبة في يوليو/ تموز المقبل لمعرفة مصير خطّة التوسعة واحتمال تغيير أنقرة موقفها حيال عضوية السويد وفنلندا.
تريد واشنطن المساومة وعقد صفقات مع أنقرة مستفيدة من الوضع الحالي في تركيا: توسعة أطلسية بأسرع ما يكون، عبر إزاحة الفيتو التركي عن عضوية السويد وفنلندا. سياسة تركية سورية جديدة تأخذ بالاعتبار ما تقوله وتريده أميركا في موضوع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وتنظيم داعش والنظام في دمشق. تقليص الحماس والاندفاع التركي نحو روسيا وإيران في المنطقة. مراجعة أنقرة سياساتها في القوقاز والبحر الأسود وشرق المتوسط وملفات التوتر مع قبرص واليونان. ولكن الخاسر الأول والأكبر من الاستدارة التركية سيكون الشريك الأميركي، إذا لم تتحرّك إدارة بايدن لمراجعة مواقفها وسياستها التركية.
تقول واشنطن إنها تقف إلى جانب أنقرة في هذه الظروف الحرجة التي تمر بها، 200 مليون دولار مساعدات ودعم أميركي لتركيا للخروج من محنتها والحبل على الجرّار. أنفقت واشنطن أكثر من ثمانية مليارات دولار على تسليح الإدارة الكردية الذاتية في شرق الفرات، وتدريبها ودعم بنائها، كما تقول أرقام أنقرة. وتتحفظ واشنطن على مليار و400 مليون دولار منذ ثلاث سنوات دفعتها تركيا مساهمة في مشروع المقاتلة أف 35، وقرّرت وضع اليد عليها وإبعاد أنقرة عن المشروع بسبب صفقة صواريخ إس 400 الروسية. تتمسّك أميركا بقرار إزاحة تركيا عن شراكة المقاتلة، وليحسم بايدن 200 مليون دولار مساعدات يقدّمها، ولكن ليعيد لنا ما تبقى في ذمتهم نستفيد منها في تجاوز أصعب أيامنا.
“التصلّب المتعدّد” مرض مترقٍّ يصيب الجهاز العصبي المركزي، ولا علاج شافياً له في الوقت الحالي كما يقال. تتنوّع أعراضه، وتشمل تشوّش الرؤية وضعف الأطراف والشعور بالوخز والتنميل وعدم الثبات وفترات من الانتكاس والخمود. هناك في داخل تركيا وخارجها من يلهث وراء نظرية المؤامرة في افتعال زلزال الأناضول بطريقة اصطناعية حرّكت خطوط الزلازل، من دون الإشارة إلى الجهة المقصودة. هناك أيضا من يحذّر من كارثة مشابهة أكبر تستهدف مدينة إسطنبول هذه المرّة. .. تركيا ذاهبة إلى انتخابات مصيرية بعد أشهر. أصابع أميركية في الاستهداف على رأس لائحة الشكوك، ما بعد ذلك هو التصلب المتعدّد في العلاقات.
بقلم: سمير صالحة / المصدر: العربي الجديد