خاص – محمود الوهب
بعد عدّة أيام تكون الثورة السورية قد أتمّت عامها الثالث عشر.. وكانت مراهنات النظام على إسقاطها لا تتجاوز الأسابيع، إذ كثيراً ما ردّد إعلام النظام كلمة “خلصت”، بمعنى انتهت.. بينما كانت مراهنة أقطاب الثورة على أنَّ سقوط رأس النظام حتميّ. ولن يتعدّى الأشهر القليلة، ووحدها البلاد كانت تغرق بالدم والخراب، ونهب ثرواتها بفعل تسيُّد أشكال مختلفة من المليشيات المُؤَجرة، والجيوش، والقواعد العسكرية الأجنبية..
اليوم حين يستعيد الواحد منا صورًا، ومشاهدَ من تلك المظاهرات الشبابية التي عمَّت المدن السورية في النصف الأول من العام 2011 ويمعن إلى كثافتها، وروحها السلميّة، وأناشيدها التي تفيض عذوبة من حبّ وفرح وأمل، وهي تقترب من تحقّق أحلام عظيمة، تراها في دولة للحرية والمواطنة المتساوية. دولة ستزيح عن كاهل شعبها أشكال الاستبداد، وألوان قهره.. فلا تفرقة ولا تمييز، لا كمَّ أفواه، ولا رعب سجون.. والأهم من ذلك كلّه، دولة خالية من تراكم فساد أخذ يلتهم الاقتصاد الوطني، وينشر الفقر والبطالة، والتخلّف الشامل.. فساد يمتدُّ على مساحة الوطن، ومن أعلى درجة إلى أدناها في سلّم “الدولة” الوظيفي (إذا جاز لنا تسمية ما كان، وما هو موجود اليوم، دولة بالمعنى الحقيقي لمفهوم الدولة..)
وحين يرتدّ البصر إلى واقع الحال الوطني يراه بائسًاً، بل هو أشدّ بؤسًا، وأعظم خطرًا مما كان عليه في ذلك التاريخ! فاليوم ثمّة احتلالات تنهب خيراته سواء أكانت مباشرة أم عبر اتفاقيات مذلّة وقِّعت تحت إرهاب الجيوش، والمليشيات المختلفة، وتمسك النظام بالسلطة! ومن جهة أخرى فإنَّ ممارسات حكومات الأمر الواقع ليست بأفضل من تلك المليشيات.. فـ: “ظلم ذوي القربى أشدُّ مضاضة..”، ناهيكم بما عاناه الشعب من قتل وفقدان للأهل والسكن، وتشرُّد في أصقاع الأرض، وفي خيام الذلّ والمهانة..
ولست، هنا، في وارد استعراض أسباب ما آلت إليه الأوضاع. وضياع أحلام الحرية والكرامة، فقد غدا ذلك معروفًا، وسوف يحاسب التاريخ كلّ مسؤول عن مآل الثورة السورية، طال الزمن أو قصر، فما حدث ليس بسبب وحشية النظام، وأعوانه من روس وإيرانيين فحسب، بل إنّه أيضًا من رعونة كلّ من اتّخذ له مكانًا في رأس هرم قيادة الثورة، ولعلَّ الخطأ القاتل قد بدأ من مقولتين خاطئتين أولاهما: استخدام السلاح دفاعًا عن المتظاهرين، ثم تحوُّله إلى سلاح عشوائي بأيدي التطرّف الذي كان النظام يسعى إليه، وساهم في وجوده، وأعدّ له العدّة ليستغله.. لا تبريرًا لنزول جيشه المهزوم في معاركه الوطنية كافة، وبكلّ ما أعدّ له من سلاح وعتاد، وابتلاعه ثلاثة أرباع ميزانية الدولة المنهوبة أصلًا، وليشهد العالم على أنّه عدو الإرهاب، وليضمن له بقاء أطول في السلطة، أو خروجًا آمنًا في أسوأ الأحوال.. وليُدخل أطرافًا دولية لها مصالحها الاستراتيجية في سورية، وهكذا كان! أمّا المقولة الثانية فهي أن النظام لا يسقط إلا بالتدخّل الأجنبي، وهذا ما جرى أيضاً! وهناك من سعى إليه بقوة. وهكذا كان الارتهان للأجنبي، وساعد على ذلك، ظهور التنظيمات المتطرّفة التي لم تقدِّر المعارضة، بشقيها السياسي والعسكري، خطورتها، وخاصة تلك التي اتخذت من إقامة دولة الخلافة هدفًا لها، قد حسمت موقف تلك الدول المعوَّل عليها..
اليوم ثمّة ركود تامّ، فلا أحد من أفراد الشعب السوري، ولا ممن يمثله رسميًا، أو يفترض كذلك، يعرف إلى أين تسير أمور دولة سورية ذات الموقع الاستراتيجي العالمي، فهي تشكِّل قلب منطقة الشرق الأوسط ذا الأهمية الكبرى لعالم اليوم، كما لا يعرف أحد ما الذي تخبئه الدول المتدخِّلة فيها. كلّ ذلك الركود ولا حركة لا من ممثلي الشعب السوري رسميًا، ولا من الشعب السوري ذاته، وسواء تعلّق الأمر فيما يسمى “مناطق النظام” أم في “مناطق المعارضة..” و لاشكّ في أنّ بعضهم مرتاح للواقع القائم.. ففي شمال شرق سورية، لم يكتف تنظيم “قسد” المدعوم أمريكيًا بسرقة الثروات السورية، من نفط وحبوب وسوى ذلك.. بل يجري تخطيط لنوع من الانفصال، تحت مسمَّيات مختلفة، مثل الحكم الذاتي أو الفيدرالية.. صحيح أنّ ثمّة تحالفاً بين القوميات الموجودة في الجزيرة السورية، وغالبيتها المطلقة من العرب السوريين، لكنّ القيادة الفعلية وقراراتها السياسية النافذة، هي لعناصر حزب العمال الكردستاني/التركي المقيمة في جبل قنديل/ شمال العراق..
ويبقى السؤال الأهمّ هو: إلى أين؟ وما هو المرسوم لنا؟! الحقيقة لا أحد يعرف شيئًا.. حتى إنّ بعض مراكز الأبحاث السورية أقامت ندوة لاستقراء آراء بعض المهتمّين بالشأن السوري، فلم يكن لديهم غير التكهنات، والسبب واضح ومعلوم، وهو أن الكلّ حاضر في سورية إلا الشعب السوري بمعنى من يعبّر عن الشعب السوري وروح ثورته..
منذ نحو ستة أشهر هبت انتفاضة شعبية جديدة في محافظة السويداء، تلك المحافظة التي لها تاريخ مشرِّف في النضال الوطني، وكانت الانتفاضة بحقّ وجهاً لسورية الطموح والأمل، إن لجهة الشعارات الوطنية أو لجهة حضور المرأة المميَّز، ورعاية رجال الدين بوعيهم الوطني الذي يدرك تمامًا وفق المعايير الوطنية.. انتفاضة لم تسحب ورقة حماية الأقليات من يد النظام، بل خرجت من طائفتها إلى رحاب سورية الوطن الذي يّتسع لكلّ أبنائه وفي دولة للمواطنة المتساوية.. وكان المؤمَّل أن يجري احتضان لتلك الانتفاضة، وأن يكون لمثلها بؤر حيث توجد المعارضة إذ هي مناسبة لكسر جدران الجمود، ولإسماع الداخل والخارج صوت السوريين المستقلّ، صوتًا ديمقراطيًا وخاصة من جانب المعارضة الرسمية في الشمال السوري..
صحيح أنَّ بعض المظاهرات الشعبية قد خرجت في بعض مدن الشمال (الباب مثلًا) وعبّرت عن سورية الواحدة المهدَّدة بالتقسيم سواء لجهة التطرّف الديني (إدلب) أم القومي (الجزيرة)، لكن تلك المظاهرات لم تؤدِّ إلى نوع من التشبيك الذي يقود إلى إيجاد نويّات تتآلف فيما بينها لتشكِّل ذلك الصوت السوري المفقود الذي يدعم القرار الأممي 2254، ويبعد شبح التقسيم، أو تحاصص البلاد، وبذلك يعيد إلى الثورة ألقها وأصالتها، وهو المطلوب اليوم..