“إيران هي الصديقة الحميمة لإسرائيل، ولذلك علينا أن نحافظ على هذه الصداقة” يقول تريتا بارسي: “لن تصدقوا هذا، كانت تلك الكلمات لرئيس وزراء إسرائيلي، ليس بن غوريون ولا غولدا مائير في عهد الشاه، بل إنه إسحق رابين والحاكم الإيراني الذي عاصره كان أحمدي نجاد”.
كل طبول الحرب التي تسمعونها بين إسرائيل وإيران، وحديث طهران عن محو إسرائيل من الوجود والضربة الإسرائيلية المتوقعة في أي لحظة ضد إيران، كل هذا مخالف للحقيقة كما يقول بارسي، فيبدأ بتحليل تلك العلاقات وتأكيد صلاتها الوثيقة منذ العلاقة الشعبية التي ربطت ما بين الشعب الإيراني واليهود في العام 359 قبل الميلاد، حين حرّر الملك كورش الفارسي اليهود من الحكم البابلي، وقد بقي ثلث المجتمع اليهودي في بابل، وهم يشكلون يهود العراق، والثلث الثاني هاجر إلى إيران، وهم يشكلون يهود إيران اليوم، وقد بقي منهم قرابة خمسة وعشرين ألف يهودي لم يهاجروا إلى إسرائيل، مما يجعل منهم أكبر مجتمع يهودي في الشرق الآن، فضلا عن إسرائيل ذاتها. أما الثلث الثالث فعاد إلى فلسطين ليبني هيكل سليمان من عائدات ضرائب الشعب الإيراني.
في العصر الحديث شهدت العقود الماضية تعاونا استخباراتيا وأمنيا عاليا بين طهران وتل أبيب، نشأ ذلك التعاون من إدراك أن التهديدات المعادية واحدة.
فالدولتان خشيتا تهديد الاتحاد السوفيتي والعراق ومصر ودول الخليج، إضافة إلى وجود سياسة إسرائيلي تقول إن أمنها سيتحقق إذا ما تحالفت مع دول غير عربية قريبة وبعيدة، وقد حاول الشاه إبقاء هذا التحالف سريا قدر الإمكان، وقد استقبل رابين في طهران في السبعينات وهو يلبس شعرا مستعارا كي لا يتم التعرف عليه، وبنى الإيرانيون مدرجا لهبوط الطائرات بعيداً عن المطار الرسمي لطهران، أي مطارا خاصا بالطائرات الإسرائيلة العديدة التي كانت تحط في إيران قادمة من تل أبيب وذاهبة إليها.
بعد وصول الخميني
رغم الإعلان القوي لإيران سياسيا وعقائديا عن معاداة إسرائيل وتغيير السفارة الإسرائيلية ورفع العلم الفلسطيني عليها، لكن تريتا بارسي يرى أن المنطق الجيوسياسي بقي يحكم علاقة البلدين، بسبب استمرار التهديدات ذاتها. ومع نشوب الحرب العراقية الإيرانية وتقدّم الجيش العراقي، خشيت إسرائيل من انتصار عراقي يلوح في الأفق، فشرعت في تقديم المساعدات لجيش الخميني وتزويده بقطع الغيار ليصمد في الحرب، وأسلحة أميركية من صنع الشيطان الأكبر كما كان يسميها الخميني، بعد أن كانت الولايات المتحدة قد فرضت حظرا على بيع السلاح لطهران.
ضغطت إسرائيل على الولايات المتحدة، كما يقول بارسي، لتفتح جسرا سياسيا مع إيران الجديدة، وتزود إيران بالتكنولوجيا العسكرية، قائلة إنه لا مشكلة في الإيديولوجيا المعادية التي يعلنها نظام الملالي الإسلامي ضد الغرب وإسرائيل، “ليبلغ هذا ذروته في فضيحة إيران ـ كونترا في الثمانينات”.
متغيرات العالم
مع انهيار الاتحاد السوفيتي، وانتهاء حقبة الحرب الباردة، “انتهى السلام البارد ما بين إيران وإسرائيل” بزوال التهديدين المشتركين بينهما، ونشأت بيئة جديدة في المنطقة، أعطت للبلدين جرعة أمان قوية، ولكن إيران من غير عراق قوي قد تتسبب في خلخلة ميزان القوى في المنطقة، لذلك يرى بارسي أن ما سمّاه بـ “التيار الديناميكي” الذي يربط ما بين إيران وإسرائيل تعود جذوره إلى حقبة ما قبل العام 1979، وفي ذلك الوقت كانت إسرائيل وإيران تمثلان أكبر قوتين في المنطقة، ولكن هذا الوضع تغير في التسعينات، فبدأ اتجاه داخل إسرائيل يطالب بعزل إيران، وإبقائها في عزلة.
كشف بارسي عن علاقة تاريخية جمعت ما بين إيران وإسرائيل عبر عدد كبير من الوثائق السرية والمقابلات والتحليلات التي أجراها مع أكثر من 130 شخصية أميركية وإسرائيلية وإيرانية
بعد حرب الكويت
اعتقد الإيرانيون أنهم، وبسبب تقديمهم المساعدة للقوات الأميركية وقوات التحالف التي شاركت في ضرب العراق في العام 1991، سيحصلون على مكافأة تجعلهم جزءا من “الهندسة الأمنية” للمنطقة والتي تشرف عليها إسرائيل وأميركا مباشرة.
ولكن الولايات المتحدة لم تستجب لتقرّب إيران، وبدءا من العامين 1993 ـ 1994 بدأت إيران في تحويل سياساتها المعادية لإسرائيل خطابيا إلى خطوات عملية، لأن الإيرانيين اقتنعوا، ومهما فعلوا، أن الولايات المتحدة ستبقى تزيد من عزل إيران أكثر فأكثر.
ولذلك فقد رأى واضعو الاستراتيجيات الإيرانية، أن أفضل وسيلة للضغط على الولايات المتحدة هي عبر “فرض تكلفة”، وأن مسرح التبادل سيكون عملية السلام، إضعافها أو إرخاء حبالها أو توتيرها، وشرعت إيران في تزويد المنظمات الفلسطينية بالسلاح لتشكل تهديدا لإسرائيل، ويستند بارسي إلى مارتن إنديك الذي يقول إن الإيرانيين فهموا الدرس بشكل صحيح، وأدركوا أن اقتراب تحقيق السلام ما بين الفلطسينيين والإسرائيليين سيؤدي إلى مزيد من العزلة الإيرانية، بينما رأت واشنطن أن زيادة عزلة إيران ستساعد على تحقيق السلام، فكان على إلولايات المتحدة أن تزيد من عزل إيران لتحقيق السلام والأمن الإسرائيليين.
وفي ظل هذا الصراع الغريب، كان التواصل مستمرا بين الدول الثلاث، فبعد انتخاب بنيامين نتنياهو في العام 1996، حاول الاتصال بالإيرانيين كي يعيد ما وصفه بارسي بـ “عقيدة المحيط الجغرافي السياسية والأمنية”، ويفاجئ بارسي بتحليله حين يقول إن إيران “لم تكن مهتمة أبدا بالعرض الإسرائيلي” ليرسل الإيرانيون بعد سنوات عرض تفاوض إلى إدارة الرئيس بوش، يقول بأن إيران على استعداد تام لإعادة العلاقات مع إسرائيل كما كانت عليه قبل عقود، يقول بارسي إن إدارة بوش لم تجب بأي شيء.
فراغ الإيديولوجيات
رأى بارسي أن هذا الصراع لم يكن إيديولوجيا بالمرة، ولا علاقة له بالشعارات التي رفعها ويرفعها كل طرف في وجه الآخر، بل هو صراع ناجم عن تغييرات جيوسياسية في المنطقة، وانهيار قوى وصعود أخرى، ونشوء تصدعات في الموازين، فحين اقتضت الضرورة الأمنية الاستراتيحية أصبحت إيران وإسرائيل حليفين، “على الرغم من شدة التناقض المميت عقائديا بين البلدين” وحين تصادمت المصالح الاستراتيجية والعقائد، تغلبت المصالح الاستراتيجية عليها.
التحالف الغادر
أصدر بارسي في العام 2007 كتابه “التحالف الغادر: التعاملات السريّة بين إسرائيل وإيران والولايات المتّحدة الأميركية”، ليشرح تلك الخارطة من العلاقات الجيوسياسية المتناغمة والمتصادمة حسب المتغيرات. وبارسي أستاذ في العلاقات الدولية في جامعة “جون هوبكينز”، كان قد ولد في إيران ونشأ في السويد وحصل على شهادة الماجستير في العلاقات الدولية ثم على شهادة ماجستير في الاقتصاد من جامعة “ستكوهولم” ليحصل على الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة “جون هوبكينز” في رسالة عن العلاقات الإيرانية- الإسرائيلية. في الخلفية بارسي ليس مجرد أستاذ جامعي في تخصص العلاقات الدولية، فهو خبير في الشرق الأوسط لدى الخارجية الأميركية، وهو رئيس المجلس القومي الإيراني الأميركي.
حين اقتضت الضرورة الأمنية الاستراتيجية أصبحت إيران وإسرائيل حليفتين على الرغم من «شدة التناقض المميت عقائديا بين البلدين» وحين تصادمت المصالح الاستراتيجية مع العقائد، تغلبت المصالح الاستراتيجية عليها
درس بارسي العلاقات الإيرانية الإسرائيلية على مدار الخمسين سنة الماضية، وكيف تتأثر وتؤثر في السياسات الأميركية في المنطقة ومدى علاقتها بنفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط ومصالحها فيه، من خلال 130 حوارا مع مسؤولين رسميين كبار في الدول الثلاث أميركا وإسرائيل وإيران، رسموا مشهدا واضحا لتلك العلاقة الثلاثية، بالإضافة إلى عدد كبير من الوثائق والمعلومات الخاصة.
النزاع الشفوي
حدّد بارسي طبيعة النزاع بين إيران وإسرائيل وأميركا، بأنه “نزاع شفوي” قائم على تراشق التصريحات والمواقف، والعقائد، يقودها إعلام الدول الثلاث، بينما يجلس مسؤولو تلك الدول على طاولة تفاوض وتحالف دائمة الانعقاد.
وقسّم بارسي في تفسيره العلاقة الثلاثية إلى وجهتي نظر متداخلتين في تشريحه للموقف بينهم، فكان أولا الاختلاف بين الخطاب الاستهلاكي العام والشعبوي، وبين المحادثات والاتفاقات السريّة التي يجريها الأطراف الثلاثة غالبا مع بعضهم البعض، وثانيا الاختلافات في التصورات والتوجهات استنادا إلى المعطيات الجيوستراتيجية.
عقيدة الطرف والعصر السابق
في الصورة الثلاثية، تعتمد إسرائيل كما قال بارسي في نظرتها إلى إيران على “عقيدة الطرف” الذي يكون بعيدا عن المحور، فيما تعتمد إيران على المحافظة على قوّة الاعتماد على “العصر السابق” أو التاريخ حين كانت الهيمنة “الطبيعية” لإيران تمتد لتطال الجيران القريبين منها، أما اللاعب الأميركي فيكون عادة واسطة العقد بين الإسرائيليين والإيرانيين.
التشابه بين إيران وإسرائيل
يرى بارسي أن إيران وإسرائيل ورغم التناقض الكبير في عقيدتيهما، إلا أن هناك تشابهات كبرى بين وضعيتيهما الاستراتيجية، فكلاهما يميل إلى أن يكون “الدولة المتفوقة” على جيرانها من العرب (superior)، وهذا يعود إلى النظرة المتعالية التي ينظر من خلالها الإيرانيون إلى العرب، فيرونهم متخلفين تاريخيا وفي مستوى دوني، ويرى الإسرائيليون الرأي ذاته، وهم الدولة الديمقراطية، والأكثر تقدما عسكريا وتكنولوجيا، والتي انتصرت في جميع حروبها مع العرب، لذلك فإن بارسي يقوم بتحديد نقطة تقاطع تجمع بين الإسرائيليين والإيرانيين في المسألة العربية، وهي أن الطرفين يميلان إلى ويفضلان دوما سياسة “لا سلم ولا حرب”.
يبني بارسي منطقه في ربط طهران وتل أبيب على أساس المصلحة الجيوسياسية وكذلك التنافس بعد غياب التهديدات المشتركة بينهما من قبل الاتحاد السوفيتي والعراق مثلا
الانفصال الثقافي
ومن نقاط التشابه بين الإسرائيليين والإيرانيين كما يعتقد بارسي، أن الطرفين يعتقدان أنهما منفصلان كليا ثقافيا وحضاريا عن المنطقة، دينيا بالنسبة إلى إسرائيل وعرقيا وطائفيا بالنسبة إلى إيران المحاطة ببحر من السنة العرب، وهذا الانفصال يجعل من قضايا العرب السنة، ومن السلام تهديدا وليس مطلبا لكل من إيران وإسرائيل، فرأي بارسي على سبيل المثال أن السلام بين سوريا وإسرائيل كارثة بالنسبة إلى إيران التي تبعد عنها حليفا استراتيجيا.
ولذلك فإن انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان في العام 2000 وقع لأن إسرائيل أرادت تقويض التأثير والفعالية الإيرانية في عملية السلام، من خلال تجريد حزب الله من شرعيته كمنظمة مقاومة بعد أن يكون الانسحاب الإسرائيلي قد تمّ من لبنان، ولكن هذا لم يقطع التواصل بين المسؤولين الإسرائيليين والإيرانيين، فيكشف بارسي عن اجتماعات سرية كثيرة عقدت بين إيران وإسرائيل في عواصم أوروبية اقترح فيها الإيرانيون تحقيق المصالح المشتركة للبلدين من خلال سلة متكاملة تشكل صفقة كبيرة، مثل “مؤتمر أثينا” في العام 2003.
بعد غزو العراق
انتظر الإيرانيون أن يقدّم لهم الأمريكيون تلك “الصفقة الكبرى” كما سمّاها بارسي، وتقدموا بوثيقة سرية في العام 2003 عرضت فيها إيران ما يلي: استخدام نفوذها في العراق لـ “تحقيق الأمن والاستقرار، إنشاء مؤسسات ديمقراطية، وحكومة غير دينية”، وتطبيق “شفافية كاملة” لتوفير الاطمئنان والتأكيد أنّها لا تطوّر أسلحة دمار شامل، والالتزام بما تطلبه الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشكل كامل ودون قيود، إضافة إلى إيقاف دعمها للمجموعات الفلسطينية المعارضة والضغط عليها لإيقاف عملياتها العنيفة ضدّ المدنيين الإسرائيليين داخل حدود إسرائيل، والتزام إيران بتحويل حزب الله اللبناني إلى حزب سياسي منخرط بشكل كامل في الإطار اللبناني، وأخيرا قبول إيران بإعلان المبادرة العربية التي طرحت في قمّة بيروت عام 2002، أو ما يسمى “طرح الدولتين” والتي تنص على إقامة دولتين والقبول بعلاقات طبيعية وسلام مع إسرائيل مقابل انسحاب إسرائيل إلى ما بعد حدود 1967.
الربيع العربي وسوريا
رأى بارسي أن الربيع العربي قد خلخل خارطة النفوذ الإيرانية الإسرائيلية، ووصف “الاحتجاجات السلمية” في سوريا بالضربة القاسية للمصالح الإيرانية الاستراتيجية، وقال بارسي لصحيفة نيويورك تايمز إنّ مجازر الرئيس السوري بشار الأسد بمساعدة إيران ضد السنة السوريين أججت الخلافات إلى أقصى حد بين السنة والشيعة، وأضاف أنّ إيران والأسد قد ينتصران في المعركة العسكرية اليوم لكن بثمن كبير هو عقود من الشقاق الطائفي.
بارسي الإيراني وبارسي الغربي
يجيد تريتا بارسي اللغة الفارسية والإنكليزية والسويدية، ويكتب في كبريات الصحف العالمية، ويعد اليوم الأكثر جرأة في دعوته إلى التفاهم مع نظام الولي الفقيه في طهران، ويستخدم مصطلح “الانخراط الحكيم” لجلب إيران إلى شراكة من نوع خاص، كتبت صحيفة “واشنطن تايمز” في العام 2009 مقالا مطولا عن الدور الذي تقوم به المنظمة التي يترأسها بارسيعلى اعتبار أن كثيرين يرونها قوة ضغط إيرانية في الولايات المتحدة الأميركية، مشابهة للآيباك، وسرت شائعات عن أموال دخلت إلى حساب بنكي لبارسي في السويد، مما رفع من حدة الاتهامات الموجهة إليه بالعمالة لطهران، أو العمالة المتعددة لها ولواشنطن وتل أبيب في الوقت ذاته.