د. عبد الحكيم بشار
منذ انتصار نظام ولاية الفقيه في إيران سنة 1979، لا يكاد يمر يومٌ واحد لا يفتعل أو يخوض فيه النظام الإيراني حرباً مباشرة أو عبر وكلائها المنتشرين في محيطه الإقليمي القريب، وحتى البعيد. يبدو الأمر وكأنه منذ انتصار الثورة الإسلامية بزعامة آية الله الخميني وتسلمه السلطة، صارت إيران تنتهج سلوكاً سياسياً هو عملياً ما كان عليه سلوك الاتحاد السوفييتي في الحكم قبل مرحلة البيرسترويكا، والتي أدت فيما بعد إلى تفكك الاتحاد السوفييتي وانقسامه إلى مجموعة من الجمهوريات.
فالاتحاد السوفييتي اعتمد على دعم الأنظمة الدكتاتورية في العالم والأحزاب الشيوعية في مختلف الدول، كجزء من سياستها الرامية إلى مناطحة الرأسمالية وهزيمة الإمبريالية، وقدمت في سبيل ذلك الأموال بسخاء لتلك الجهات الرسمية وغير الرسمية، بينما أهملت وضعها الاقتصادي الداخلي، وركَّزت فقط على التسليح والفضاء، على الرغم من الأزمات الاقتصادية العويصة التي كانت تعاني منها مؤسسات الدولة. فعوضاً من محاولة إيجاد الحلول لتلك الأزمات الداخلية ومحاصرتها والخروج من المآزق، بقي لدى حكام الاتحاد السوفييتي عقيدة واضحة المعالم، وهي هزيمة الرأسمالية والإمبريالية العالمية وانتصار الشيوعية.
في سياق نظير، فإن إيران، ومنذ تسلم رجال الدين السلطة في البلاد بعد الإطاحة بالنظام الملكي، تسلك نفس المنهج الذي اتبعه الاتحاد السوفياتي سابقاً، من خلال دعم مجموعة من الميليشيات المسلحة، معظمها شيعي، عدا حركة حماس الفلسطينية، والتي تستند في دعمها على بُعد طائفي مقيت. قدمت لتلك المليشيات المال بسخاء مما تسبَّبت بزعزعة الاستقرار في الدول التي نجحت إيران فيها بخلق ميليشيات تخدم أجندتها، وتسببت بتشكيل حالة من “الدولة الفاشلة”، ومصادرة القرار السيادي لمؤسسات تلك الدول، وجعله بيد تلك الميليشيات، كما هو الحال في اليمن ولبنان والعراق وسوريا.
راهناً، ما تزال طهران تسير في نفس الاتجاه الذي سلكه الاتحاد السوفييتي قبيل انهياره. لذا، إن لم يتدارك مسؤولي النظام الحالي الأمرَ، فإنه مع إهمال الوضع الداخلي الهش، كما كان الوضع في الاتحاد السوفييتي قبيل التفكك، قد تخسر طهران كل إمكانياتها التي خصصتها للتسليح ودعم المليشيات في الدول المجاورة، كما خصص السوفييت أموالها في سباق التسلح مع أمريكا ودعم الأحزاب الرديفة في العالم.
فهذا الوضع أوصل إيران إلى مفترق طرق مصيري، وفي حال استمرارها بنفس النهج، ستجد طهران نفسها يوماً ليس ببعيد وهي تستعيد تجربة الاتحاد السوفيتي، أي سيناريو التقسيم. فالشعوب الإيرانية وصلت إلى حافة المجاعة رغم ضخامة الاقتصاد الذي لم يُستثمر بالشكل الصحيح، إضافةً إلى القمع المتواصل واستمرار حالات الإعدام التي تزداد يوماً بعد آخر.
من الواضح أن الرئيس الإيراني مسعود بزيشكيان قد أدرك هذا السيناريو حينما تحدث أمام جمعٍ من الإيرانيين في نيويورك نهاية شهر سبتمبر المنصرم، قائلاً: “إن استمر الوضع هكذا، فلن تجدوا دولة اسمها ايران، بل ستكون هناك حكومات لكردستان وأذربيجان والأهواز (عربستان)”.
السيناريو الآخر الذي قد يساهم في إنقاذ الدولة الإيرانية من التفكك، لتلاقي مصيراً غير الذي كان للاتحاد السوفييتي، هو أن تتخلى إيران بشكلٍ كامل عن تلك المليشيات وفق جدول زمني محدَّد وقصير المدى، وتلتفت بعدها إيران لوضعها الداخلي، وتحل مشاكلها مع المحيط الاقليمي والمجتمع الدولي، بما فيها قضية البرنامج النوو،ي على قاعدة عدم التدخل في الشؤون الداخلية بشكلٍ فعلي وليس إعلامي، ومن ثم تنصرف لشؤون شعوبها وإجراء إصلاحات عميقة في شكل الدولة ونظام الحكم وطريقة إدارة الأزمات، طالما أن نظام الحكم الحالي في إيران لا يتماشى مع منطق العصر وصيرورة التاريخ، فهو جزء من الماضي السحيق ولا يمكنه الاستمرار بإدارة الدولة بهذا النمط من الحكم.