د. يحيى العريضي
منذ عامين، وفي افتتاح الجلسة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة، قال الأمين العامّ للمنظمة الدولية، “أنطونيو غوتيرش”، “عالمنا حالياً يتجه نحو الفوضى؛ ونحن نسير في الطريق الخاطئ؛ وعلينا اتخاذ قرارات مصيرية”. يكرّر الرجل فحوى عبارته هذه كل عام، كما كررها أمناء عامون من قبله. الكل يعرف ذلك، ويسكت عليه لفائض في القوة، أو ضعف، أو استكانة وخنوع.
هكذا بُنيت وتأسست هذه المنظومة الدولية في منتصف أربعينيات القرن الماضي: القوى التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية قررت أن تجدد شبابها، الذي بدأ بالربع الأول للقرن الماضي تحت اسم “عصبة الأمم”، بمنظومة جديدة سمّتها “الأمم المتحدة”. وكان أول بند في “ميثاقها”:
“نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف، ونؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان.. وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية.. وأن ندفع بالرقي الاجتماعي قدماً… وأن نرفع مستوى الحياة في جو من الحرية أفسح… وأن نستخدم الأداة الدولية في ترقية الشؤون الاقتصادية والاجتماعية للشعوب جميعها”.
ليس خفيّاً على سكّان كوكبنا أن ويلات الحروب استمرت؛ وعلى الضعفاء تحديداً، وبيد الأقوياء؛ والأحزان تعمّقت؛ وحقوق الإنسان أضحت في مهب الريح؛ وكرامة الفرد تدنست أكثر؛ والمساواة انحصرت في توزيع الظلم والاستبداد والاستغلال؛ والرقي الاجتماعي أضحى مزيداً من الفقر والجهل عامةً؛ والحرية شعار براق لا يناله إلا القادر على القتل، الناجي من جريمته؛ والشؤون الاقتصادية والاجتماعية تعني ألا يشبع أو يرتاح واحد من الأقوياء، حتى ينهار حال الملايين من الضحايا التاريخيين.
مثاليات الطروحات تكون داخل تلك القاعة الضخمة الفخمة للأمم المتحدة؛ أما خارج جدرانها فيكون الخرق لميثاقها، والاختلاف على تقاسم الغنائم، والاستبداد بمليارات البشر، والتسلُّح بميثاقها وقوانينها للاستبداد بها والدعس على القانون الأكبر؛ وهكذا يأكل الكبير المتوسط أو الأصغر، أو يستعبده. إنه نادي “المنتصرين”؛ ولكنه يحتكم إلى قانون الغاب، لا الميثاق الذي بُنيت عليه المنظمة.
لتجسيد وتثبيت تسلطها على العالم، خلق كبار المنظمة وأقوياؤها ما سموّه “الفيتو”؛ وليت ذلك كان في خدمة الأهداف التي وضعوها من أجل السلم العالمي، وحقوق الإنسان وكرامته؛ إلا أنه للأسف كان لتكريس عكس ذلك تماماً. فمن أجل الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وسلب حقوق الفلسطينيين، استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية “الفيتو”83 مرة، منها 42 مرة لحماية الغطرسة والإجرام الإسرائيلي في استباحة حقوق الفلسطينيين. وروسيا استخدمت “الحق” ذاته 18 مرة لحماية منظومة الاستبداد الأسدية في قتل السوريين، وزهق حقوقهم.
المفارقة أن مجلس المتجبرين هذا يصدر قرارات؛ ولكن يتم إهمالها وخرقها والدعس عليها دون أن يرف له جفن؛ والأمثلة كثيرة ومعروفة؛ وبينها القرارات 242 و338؛ حيث يتحوّل المجلس إلى حالة مشلولة، بسبب أعضائه أنفسهم. وعندما يحلو لأحد أعضائه إنجاز أهداف معينة، يدير ظهره لذلك المجلس، وينتهك الميثاق خلفه: غزو أمريكا وبريطانيا للعراق مثال صارخ؛ وهتك روسيا لسيادة الدول المحيطة بها مثال آخر؛ وما فعلته بسورية ليس إلا أخذ هذا المجلس رهينة، حمايةً لعصابة إجرامية تشبهها. يكفي تَذَكُّر مصير القرار 2118 حول استخدام نظام الأسد للسلاح الكيماوي.
على الورق، قرارات المجلس تلتزم بما نصَّ عليه ميثاق الأمم المتحدة، وما قامت عليه من مبادئ سامية؛ ولكن واقعياً وفعلياً وتنفيذاً، سياسات الكبار بعكس النصوص تماماً. تلك هي الوصفة الأنجع للفوضى التي حذّر منها “غوتيريش”؛ و”الطريق الخاطئ” الذي يتحدث عنه أضحى وقحاً وفجاً إلى درجة تجعل من الناسك مجرماً رغماً عنه؛ وعندها يُشهِرُ مَن يتحكم بكوكبنا سيف “الإرهاب” ليعاقب جماعياً؛ أما “القرارات المصيرية” فتتمثَّل بنتائج صراع الكبار على مصالحهم، وحلّ أزماتهم على حساب دم وأرواح مليارات كوكبنا من المعذبين.
لو امتلكت هذه “الأمم المتحدة” ومجلس أمنها ذرة من الشرف أو الالتزام بما تفوّهت به في ميثاقها؛ هل كانت لتسمح لمنظومة الأسد الاستبدادية أن تضع قدمها أو حتى تبقى أو تحضر في “الأمم المتحدة”؛ وهي التي قتلت أكثر من مليون من مواطنيها، وأفنَت تحت التعذيب عشرات الآلاف في معتقلاتها، واستخدمت السلاح الكيماوي على مواطنيها؟ وما يزيد في الطنبور نغماً ويدل على انحطاط أخلاقي أكثر هو تلك المحاولات الدؤوبة من المحتل الروسي – العضو في “مجلس الأمن”- لإعادة تكرير منظومة الإجرام تلك؛ ومحاولات بعض قادة دول “عربية” قاصرة المساهمة بتكرير هذا الإجرام!
مؤخراً، وإثر الزلزال الذي أصاب مَن شرّدهم الأسد من وطنهم بزلازله المستمرة، وبحجة إدخال “مساعدات”، وبكل وقاحة وصلف؛ فجأة تتمترس هذه الأمم المتحدة عند “سيادة” سورية، وتصرّ على الاستئذان من قاتل السوريين لفتح معابر لإغاثة سوريين ضربهم الزلزال؛ وفوق ذلك تشكره على موقفه. وهنا تتعطّل لغة كلام المكلومين المنكوبين. وعندما يرفع بعض السوريين عقيرتهم احتجاجاً وانتقاداً لهذا السلوك السافل، يهدد ممثلوها مَن تجرأ ورفع صوته.
قد يقول قائل “عقلاني”، من جماعة “الواقعية السياسية”، واللطف، والظرافة، وحسن السلوك، والمحبوب من الدول والمجتمع الدولي والأمم المتحدة: أيها السوري، “لم تترك لنفسك صديقاً، ولا مَن يتعاطف مع قضيتك”؛ إنك بذا تعادي كل الدول بما فيها “الأمم المتحدة”!! وهنا نقول: ما نفع أن نكسب ودّ هؤلاء بشراهتهم وعدوانيتهم وأنانيتهم وعُقَدهم وإجرامهم، ونخسر حياتنا وبلدنا الذي ليس لنا غيره؟!! نعم، ليس من مصلحتنا أن نخسر الأمم المتحدة، ولكن كل الأبواب تُقفَل في وجوهنا. وحدها الطبيعة تفتح بوجهنا بابها، ولكنه كان باب زلزال. سنبقى نقول: “ليس لنا إلا الله”، وهو نعم الوكيل؛ ولكن لا بد من تكسير هذه الأبواب.
المصدر: نداء بوست