أسامة آغي
قبل الحديث عن علاقة قوى الثورة والمعارضة بمؤسساتها الثلاث المعروفة، ينبغي التأكيد على أن أياً من هذه المؤسسات، لا يمكنه فرض حضوره بكل ما يتعلق بالقضية السورية، دون ارتكازٍ حقيقي مادي وملموس، تمثّله ما يُطلق عليه اسم “كتلة التغيير الصلبة”، وهناك من يُطلق عليها “الكتلة الشعبية الثورية التاريخية”، لتحقيق الانعطافات في بنى الدولة والسلطة.
في حالة ثورتنا السورية، والتي مرّت بمراحل متعددة، تمثّلت بتراجع عن مدّها الثوري، نتيجة تغيّر موازين القوى العسكرية، والسياسية، على الأرض السورية، هذا التغيّر كان يحتاج إلى عملية نقدٍ ذاتي لمسار الثورة السورية، لكنها عملية لم تنجز بعد بصورة موضوعية، هذا النقد يكون من اختصاص النخب الفكرية/ السياسية المنحازة للثورة، ومن اختصاص النخب السياسية الفاعلة، ومن مؤسسات الثورة.
إن ضعف تأثير قوى الثورة والمعارضة سببه الرئيس هو انتقال إدارة ملف الصراع السوري من قبضة طرفيه السوريين المتصارعين (قوى الثورة من جهة والنظام الأسدي من جهة أخرى)، إلى قبضة القوى الإقليمية والدولية، وبسبب هذا الانتقال وانتظار “إخراج الزير من البير” لم يفطن أحدً إلى ضرورة تأطير الحاضنتين الشعبية والثورية ضمن إطار ما نطلق عليه “كتلة التغيير الصلبة”.
إن قوة فعالية “كتلة التغيير الصلبة هي قوةٌ ذاتيةً، فهي كتلة لا تخضع لسياسات قوى إقليمية، أو دولية، وإن فعاليتها لن تكون ذات جدوى بدون وجود رؤية سياسية، تُقرّ بمبدأ حوكمة الشمال السوري المحرّر، ولا ينتمي لأي تيار إيديولوجي، وإنما أفقها هو الانتقال السياسي الحقيقي من نظام دولة الاستبداد إلى نظام دولة مؤسسات قانونية، تقرّ بالحريات السياسية، وبتداول السلطة عبر صندوق انتخابات شفافة، تخضع لإشراف أممي.
“كتلة التغيير الصلبة” هي مجموع قوى الحراك الشعبي والثوري ومنظمات المجتمع المدني المختلفة، والشخصيات الوطنية، والتمثيلات الاجتماعية المتعددة، هذه الكتلة، لا يمكن أن تجتمع ويتوحد عملها تحت سقف إيديولوجي واحد، لأنها تنتمي لفئات فكرية واجتماعية مختلفة بوضعها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والايديولوجي، وبالتالي قوتها تكمن في مربع قضية التغيير في بنية الدولة والسلطة، من خلال مرحلة انتقالية شاملة، وهي لا يمكن أن تكون بديلاً عن مؤسسة الحوكمة السياسية، بل داعمة لها من أجل تعميق الدفاع عن أهداف الثورة السورية، وفي مقدمة ذلك الضغط لصالح تنفيذ القرارات الدولية الخاصة بالصراع في سورية، وفي مقدمة هذه القرارات القرار الدولي 2254.
كذلك ستكون “كتلة التغيير الصلبة” قوة حقيقية، تساهم في دفع الحكومة المؤقتة كي تلعب دورها في إدارة الشمال المحرر خدمياً وأمنيّاً واقتصادياً واجتماعياً.
الحكومة المؤقتة ذات دور محدد في اللائحة الناظمة لبنية الائتلاف الوطني السوري، وهي لا يمكنها جمع دورين بدور واحدٍ، أي لا يمكنها لعب دور الحوكمة، وفي الوقت ذاته لعب دور الحكومة المؤقتة. ومحاولة لعب ذلك ستصبّ في إضعاف قوى الثورة وتوزيع مهامها.
والسؤال: لماذا لا يمكن لهذه الحكومة المؤقتة لعب دور الحوكمة؟
الجواب على هذا السؤال سهل وبسيط، فهذه الحكومة برئيسها ووزرائها إنما يمكنها المباشرة بدورها بعد حصول رئيسها ووزرائه فرادى على ثقة الهيئة العامة للائتلاف الوطني السوري، وبالتالي، هي حكومة إدارة هذه الملفات، وليست إدارة الملف السياسي.
الائتلاف الوطني السوري هو القيادة السياسية المعترف بها أممياً، وبالتالي فمنازعته على دوره ليس أمراً سهلاً، وكل صراعٍ أو محاولة لانتزاع دوره من قبل هذه الفئة أو تلك إنما سينتهي بفشلٍ ذريع، لأن الائتلاف الوطني السوري ببنيته القائمة يشكّل مروحة تمثيل واسعة لقوى على الأرض السورية، ففيه مثلاً تمثيل للمجلس الوطني الكردي، وفيه تمثيل لفصائل الثورة العسكرية المنضوية تحت راية وزارة دفاع الحكومة المؤقتة، وكذلك فيه تمثيل للمجالس المحلية في الشمال السوري، ولكل الهيئات السياسية الثورية للمحافظات السورية، إضافة إلى مجموعة المستقلين وغيرها من مجموعات.
إن الائتلاف الوطني السوري معني في العمل على تشكيل “كتلة التغيير الصلبة”، وعلى مساعدتها بكل السبل من أجل أن تلعب دوراً حاسماً في منع أي ارتدادات عن مطلب الانتقال السياسي في سورية وبناء دولة مؤسسات المواطنة.
وإن الحكومة المؤقتة معنية بدعم فعاليات “كتلة التغيير الصلبة” وليس منعها من رفع مستوى الوعي الثوري لدى مواطني الشمال المحرّر، وهذا يتطلب منها عدم التدخل ببنية هذه الكتلة ودورها في دعم قوى الثورة السورية، من أجل إنجاز الانتقال السياسي، عبر الضغط لتنفيذ القرار 2254.
إن محاولة إضعاف فعالية “كتلة التغيير الصلبة” سترتدّ على من يفعل ذلك هزيمة سياسية ورفضاً شعبياً، فالسوريون في الشمال المحرر، وتحديداً السوريون النازحون عن محافظاتهم وبيوتهم، يعيشون أسوأ ظروف حياة في المخيمات أو غيرها، ليس لينتجوا حكومة تقمعهم أو تهمل شؤون حياتهم اليومية، بل هم يريدون أن تكون هذه الحكومة المؤقتة قادرة على إدارة شؤون الشمال المحرر في جوانبه الأمنية، والاقتصادية، والمعاشية، والاجتماعية، والصحية، وغيرها كثير.
إن العلاقة بين الائتلاف الوطني السوري والحكومة المؤقتة مع “كتلة التغيير الصلبة” (وهي كتلة موجودةٌ، وبحاجة إلى تأطير بنيتها، وعملها، ودورها)، يجب أن تكون ذات طابع جدلي، أي كل طرف في هذه المعادلة يؤثر في الآخر، وهذا التأثير ينبغي أن يكون في مصلحة حماية مطالب الثورة السورية وأولها الانتقال السياسي وفق القرار 2254، وتطوير الوضع العام اقتصادياً ومعاشياً في الشمال السوري.
هذه العلاقة الجدلية، تساعد الائتلاف الوطني السوري في نقل نشاطه السياسي الأساسي المعبّر عن مطالب الثورة إلى الشمال السوري، مما يمنح هذا النشاط القوّة والمصداقية والتوسع، أما بقاء إدارة شؤون المحرر عن بعد، لن يخلق ثقة بين الائتلاف الوطني و”كتلة التغيير الصلبة”.
الأمر ذاته ينسحب على أداء وبرامج عمل الحكومة المؤقتة، فلا ينبغي ان يكون عمل الحكومة محدود الأثر في إدارة شؤون المحرر الخدمية والاقتصادية والأمنية، وهذا الدور، لم يكتمل بعد، ولم يتم تمكينه، بل ينبغي أن تلعب هذه الحكومة دور إدارة شؤون الشمال المحرر، وأن تحترم إرادة “كتلة التغيير الصلبة” وتحتمي بقوتها وفعاليتها، لأن هذه الكتلة هي التكثيف الحقيقي للشعب السوري في صورته المدنية.
إن دفاعنا عن أطر قوى الثورة والمعارضة نابع من حقيقة واحدة، وهي أن الثورة السورية بدون مؤسساتها لا تقدر على الوقوف بوجه ألاعيب النظام الأسدي، فهو نظام يتمنى أن تزداد الصراعات البينية بين مؤسسات الثورة، ليسهل عليه شطبها من معادلة التفاوض.
إن دفاعنا عن أطر الثورة لا يعني دفاعاً عن هذا الشخص أو ذلك، ممن يشغلون مهاماً في هذه المؤسسات، وإنما دفاعٌ عن مطالب الثورة وأهدافها، ولو بحدّها الأدنى المتمثّل بتنفيذ القرار الأممي 2254. فكل مقصّر ومسيء لمهامه، ينبغي عليه الانسحاب من المشهد لصالح من تختاره “كتلة التغيير الصلبة”.