باسل معراوي-نينار برس
قبل البدء في مناقشة أسباب وأهداف ومآلات مسار إصلاح العلاقات التركية مع نظام الأسد لابُدّ من التوقف عند النقاط التالية:
1- يُمكن تقسيم التدخل التركي في الثورة السورية إلى مرحلتين كانت حادثة إسقاط المقاتلة الروسية في أواخر 2015 هي الفيصل بينهما.
ولأنّ اللاعب الأمريكي هو الذي يقود من الخلف ويضع الخطوط الحمراء والخضراء والبرتقالية أمام أفرقاء الصراع، ولأنّ تركيا في حلف عسكري واحد مع الولايات المتحدة وتُمثّل التوجهات الغربية في أيّ صراع، وبسبب المواقف الأمريكية المعلنة من نظام الأسد والتي تقول بفقدان الأسد لشرعيته وإنّ عليه الرحيل، فالمرجّح أنّ تركيا ودول الخليج كانت تنوي إسقاط الأسد عسكرياً بعد أن تم طرده سياسياً من الجامعة العربية، وقامت الولايات المتحدة بتجميع دول كأصدقاء لثورة الشعب السوري حتى فاق عددهم مئة دولة، وتدفق السلاح من كل حدبٍ وصوب على سوريا لتسليح المدنيين وإنشاء قوى عسكرية مقاتلة للتصدي لجيش الأسد النظامي والمدجج بشتى أنواع الأسلحة، وليس سهلاً تشكيل جيش من المدنيين على عَجَل للقتال ضد جيش الأسد والميليشيات الداعمة له والتي تملك التدريب والخبرة والوفرة المالية كميليشيات حزب الله أول المتدخلين إلى جانب ميليشيا الأسد.
وعندما فشلت ميليشيا الأسد وفيلق القدس في منع سقوط النظام، حصل الانخراط الروسي في الحرب في 30 أيلول 2015.
قبل ذلك التدخل المتوقع رفضت إدارة الرئيس أوباما أيّ شكل من أشكال الدعم الحقيقي لتركيا والثورة السورية بإنشاء مناطق آمنة أو عازلة وذلك بتقديم حظر جوي تذرعوا كثيراً بصعوبته، فيما نفذوه بسهولة لقوات قسد حليفهم الأرضي ضد د ا ع ش.
أدركت القيادة التركية بعد 2016 وعدم وقوف الولايات المتحدة بجانب تركيا في حادثة إسقاط السوخوي الروسية، أنّ من يريد إسقاط دمشق عليه أن يُسقط موسكو أولاً.
بات لِزاماً على أنقرة إدارة الهزيمة العسكرية لحلفائها وتخفيف الخسائر، وتم الدخول في مسار أستانة الذي انتهى عملياً في بدايات 2020 بإدارة الخلافات بين الدول الثلاث لتجنب الاصطدام المباشر، وبما أنّ إسقاط نظام الأسد أصبح من الماضي فعلى الأتراك تغيير استراتيجياتهم في سوريا للحفاظ على أمنهم القومي وتقليل المخاطر حيث منذ صيف 2014 كانت الولايات المتحدة تُحارب في سوربا مع حليفها الأرضي ويقوم حزب PKK السوري بالإمساك بالأرض التي يتم طرد د ا ع ش منها، وتبلّور إدارة كردية بدعم غربي على الخاصرة الجنوبية لتركيا.
حدث توقف للمعارك الكبرى في بدايات 2020 بعد اجتياح النظام وحلفائه لمناطق واسعة في أرياف حلب وإدلب وحماة، ونكث الروس بالكثير من تفاهماتهم مع الأتراك وهو ما أدى لحصار النقاط التركية التي أنشأت للمراقبة ومحاولة الروس الوصول حتى معبر باب الهوى وحسم الحرب في إدلب باحتلالها كاملةً، وتمكن الأتراك من إيقافهم عند خطوط وقف القتال حالياً، وهي أقصى ما أمكنهم فعله وفق موازين القوى السائدة وقتها، وخرج الأتراك وحلفاؤهم من السوريين بالسيطرة على بقعة مهمة من الأرض تعادل ضعف مساحة لبنان وهي ضرورية جداً رغم صغرها لبقاء الثورة السورية وتجذّرها على أرضها.
ولأنّ القوى الإقليمية تخسر عندما تتفق القوى العظمى، وتربح عندما يختلفون، وأتت هذه الفرصة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا وتحولت العلاقة بين واشنطن وموسكو إلى صراع صفري لا حل له إلا بهزيمة أحد الطرفين وهو صراع لابد أن يكون فيه رابح وخاسر، وهو الصراع في أوكرانيا على السيادة الدولية.
ومع استهلاك أيام الرئيس بايدن بالبيت الأبيض وعدم الوصول لاتفاق نووي، بدأت ملامح جديدة في العلاقة الامريكية مع طهران وأخذت تميل للتصعيد إلى أن حصلت 11 أيلول جديدة في 7 أكتوبر وحصل الطلاق البائن بين إيران والولايات المتحدة وإسرائيل والغرب عموماً، وبات الحسم العسكري هو المطروح على الساحة، وتجري الآن حرب كبرى في البحرين الأبيض والأحمر ضِدّ الأذرع الإيرانية تمهيداً لطردها من المنطقة كلها.
وبانشغال الروس بحربهم في أوكرانيا والإيرانيين بحربهم مع إسرائيل والولايات المتحدة وانشغال الأمريكان بالحربين معاً، شعر الأتراك أنّ ميزان القوى يميل لصالحهم على الأرض، وأنّ معادلات القوة التي انتجت خطوط وقف القتال الحالية قد تغيرت وبات لزاماً عليهم اختراقها لإنشاء خطوط وقف قتال جديدة وفقا لموازين القوى الحقيقي على الأرض.
2- تركيا دولة ديمقراطية ويوجد أهمية لصوت الناخب، مثلاً بإمكان بوتين والأسد وخامنئي رسم سياسات لأمد بعيد أيّ طالما هم أحياء، بينما في تركيا فيختلف الحال، إذ لابد من أن تكون محصلة الجهود السياسية هي الفوز بولاية جديدة، لذلك كل تصريح من مسؤول تركي يجب الأخذ بعين الاعتبار أنه لا يَصلح إلا للاستهلاك الداخلي ولا يمكن أن يكون سياسة الحكومة الحقيقية.
3- الأمن القومي للدول تصوغه عوامل الجغرافيا والتاريخ والمصالح الحالية والمستقبلية وتقوم بالتقيد به وبتنفيذه السلطة السياسة الموجودة في الحكم، وبالمصطلحات الحديثة من يقوم بوضع استراتيجيات الأمن القومي مؤسسات الدولة العميقة، فلا يمكن أن تتغير مُحدّدات الأمن القومي في كل حملة انتخابية ولا يحق لحزب بعينه وضعها، إنما من هو موجود في السلطة يُنفذها بأدوات وأساليب قد تختلف عن الآخر.
4- معادلة رابح – رابح.
يكمن السر في الدعوات التركية الأخيرة للتصالح مع نظام الأسد من معادلة الربح مهما كانت استجابة الطرف الآخر للدعوات.
أ- الاحتمال الأول أن يقبل الأسد بتلك الدعوات ويقوم بالتفاوض على حل مع المعارضة السورية تتيح عودة اللاجئين إلى ديارهم الأصلية التي خرجوا منها، وقيام الأسد بالحرب على ميليشيات قسد والقضاء عليها بمعونة تركية وذلك لتوفير الأمن القومي التركي، عندها تنتفي الحاجة لأي تواجد عسكري تركي في الأراضي السورية. وهذا سيكون رابع المستحيلات.
ب- عند رفض الأسد الاستماع إلى تلك المطالب ورفضه تغيير نهجه وسرديته عن عدم وجود معارضة وإنما إرهابيين، وإنه قام بما يتوجب عليه من متطلبات من إصدار مراسيم للعفو وإجرائه لشتى أنواع الانتخابات وتغييره للدستور وهذا هو المتوقع، عندها سيقول الأتراك للعالم إننا حاولنا تحقيق أمننا القومي بالحوار مع سلطة الأسد لكنه رفض وما علينا إلا تحقيق ذلك بأيدينا ويبدؤون بعمليات عسكرية في الشمال السوري لتحقيق الحزام الأمني بعمق 40 كم. متذرعين بالمادة 51 من ميثاق الامم المتحدة.
خمسة أسباب لتدهور العلاقة بين الحاضنة الثورية وتركيا
بسبب مرور أكثر من عقد على انطلاق الثورة، وبسبب وجود 5 ملايين سوري في تركيا وأكثر منهم في الشمال السوري الخاضع للنفوذ التركي، فإنّ مشاكل عديدة ظهرت خلال تلك السنوات سألخصها بخمسة أسباب، والغاية من كل تلك الاحتجاجات والمكاشفات والندوات والاعتصامات هي تصويب العلاقة مع الجار التركي لضمان استمرارها واستقرارها فقد حكمت علينا الجغرافيا والتاريخ بالبقاء معاً إلى يوم الدين.
1- مسار أستانة المشؤوم:
حدث ذلك بعد خسارة الثورة لأحياء حلب الشرقية، واستمرار خسارة الكثير من الأراضي المحررة وفق ذلك المسار بعد تسميتها بمناطق خفض التصعيد، إلى أن بقيت منطقة واحدة فقط هي منطقة خفض التصعيد الرابعة.
وبالطبع لا تتحمل تركيا مسؤولية منطقة دمشق وسهل حوران حيث لم تكن فاعلاً مهماً فيها حتى تساهم في عودة سيطرة الأسد عليها.
وكان الحنق الشعبي (ولا زال) إزاء عدم الرد من الجيش التركي أو الجيش الوطني على الاختراقات الكبيرة التي نفذها الطيران الروسي بقصف مناطق مدنية حيث كان الجمهور لا يجد أي معنى حقيقي لكلمة الضامن التركي.
2- ترى الحاضنة الشعبية انها خرجت بثورة قدمت فيها الغالي والنفيس ضد الأسد وليس قسد، ومع أنّ الواقع يثبت أنّ قسد ذراع للأسد وأنها بدعم روسي شاركت في احتلال أجزاء واسعة من ريف حلب الشمالي وقامت بتهجير 300 ألف من سكانه باتجاه الحدود التركية، وكان حزب الـ PYD جزءاً من حصار حلب الشرقية، وقامت قوات قسد مؤخراً عند الحرب على د ا ع ش بارتكاب المجازر بحق العرب وتجريف القرى وإحداث تغيير ديمغرافي في المنطقة وتغيير أسماء المدن والبلدات والقرى.
إلا أنّ الخطاب الرسمي التركي كان يركز على العداوة مع قسد وليس الأسد.
3- الهيمنة التركية على القرار السياسي والعسكري للثورة السورية، وفرض قيادات غير محبوبة من الشارع، وإحساس الحاضنة أنّ تركيا تستعمل ورقة الثورة ومعاناة الناس لأجندة سياسية خاصة، وزاد في ذلك التصريحات التركية الأخيرة عن مصالحة مع النظام، وفرض ذلك على المعارضة في صورة مُرسّخة في المخيال الشعبي عما حدث في الجنوب السوري بعد تسليمه للأسد من قبل التحالف الداعم لقوى الثورة.
4- ملف اللجوء السوري في تركيا وبروز موجات كراهية وعنصرية تجاههم، وهم أهلهم وذويهم وأبناء بلداتهم وأحيائهم، وعلى مدار خمس سنوات من تلك الممارسات ازدادت نقمة السوريين على السياسات التركية كلها، خاصة أنّ رهانهم على حزب العدالة وحكومته قد خاب عندما لمسوا أنه لا يعارض ما يحصل لإخوانهم اللاجئين، وساهمت عمليات الترحيل للسوريين من تركيا بتشكيل بيئة محتقنة في الشمال، لأن المُرحّل يحكي لذويه ما لاقاه من ظلم واضطهاد من الأتراك واشتراك أجهزة الدولة في كل تلك الأفعال.
5- ملف عدم كفاءة الإدارة التركية لمناطق الشمال سبب مهم أيضاً في ازدياد النقمة الشعبية، فالحوكمة في أدنى درجاتها، والفصائل التي تتحكم بالبلاد والعباد متجذرة ولم تنجح كل مشاريع الهيكلة بضمها لفيالق تشكل جيش وطني بتراتبية مركزية يتبع لوزارة دفاع تقودها الحكومة المؤقتة والتي تتهم بالضعف وعدم الكفاءة.
كما أنّ تدخل المنسق التركي (الذي يمثل الوالي التركي الذي تتبع له المنطقة السورية) في كل مفاصل الإدارة وأهمها مؤسسة القضاء والشرطة والمجالس المحلية، وكانت الاحتجاجات الشعبية الأخيرة من ضمن مطالبها كف يد المنسق عن التدخل في حياة السوريين، وبقاء التواجد التركي عسكري وأمني لحماية المنطقة دون التدخل بإدارتها.
الانعكاسات على السوريين في تركيا وفي الشمال المحرر
1- في تركيا ستستمر عمليات الترحيل لكن بشكل أخفّ لأنّ الموضوع مرتبط بالصراعات الداخلية بين الأحزاب، وبما أنّ حزب العدالة قد خسر كثيراً من قواعده الناخبة، وتلقى ضربة كبرى في الانتخابات المحلية فإنه يسعى لاستعادة تلك القواعد وعدم ميلها باتجاه الخصوم. وسيكون التركيز الاعلامي على عمليات الترحيل القسري تحت أيّ ذريعة، لأنّ المهم هو الأضواء والصخب وليس الترحيل الفعلي.
بعد أحداث قيصري وبروز عنصرية تجاه العرب عامةً وهو ما يُهدّد الاستثمارات العربية في تركيا، وبسبب انكشاف هزالة المؤسسات التركية (التي تأمل الانضمام للاتحاد الأوربي) بحادثة تسريب بيانات 3.5 مليون سوري وخشية تداعي ذلك لملفات أخرى لغير السوريين كالحسابات البنكية واتهام طفل عمره 14 عاماً بذلك، إضافةً لأصوات بعض العقلاء الأتراك.. فان الموجة ضد العنصرية ستخفّ بعد تقديم مشروع قانون بذللك لمجلس النواب وتوجيه اتهامات لرئيس حزب الظفر أوميت أوزداغ قد تؤدي به إلى السجن.
2- في الشمال السوري سيحرص الأتراك على تخفيف اللهجة تجاه الأسد التي كانت استفزازية للجمهور السوري وكانت مع غيرها من الأسباب حركت الشارع السوري في احتجاجات غاضبة هددت كل المشروع التركي في سوريا، فكانت تصريحات وزير الخارجية عن استقلالية قرار المعارضة، وعدم تدخل الأتراك به، والقول مؤخراً إنّ مناطق سيطرة المعارضة ومستقبلها تخضع للقرارات الدولية.
ويجب أن يعلم الأتراك (ويبدو أنهم وعوا ذلك) إنّ شرعية وجودهم العسكري في سوريا يأتي من رضى الحاضنة الشعبية عنه واعتبار الأتراك حلفاء ويحمون المناطق المحررة وليسوا قوة احتلال قد تقايض عليهم عندما تتحقق مصالحها الآنية، فلا الأسد فاقد للشرعية يعطي شرعية ولا المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة تمنح ذلك الحق كما يمنحه السوريون أنفسهم.
سيتم البدء بإجراءات إصلاحية في الداخل وتقليص تدخلات الفصائل العسكرية في الحياة المدنية.
والجميع ينتظر مآلات البركان النَشط المتفجّر في المنطقة والذي من المرجّح أن يلقي بحممه على الملف السوري.