خاص – د. يحيى العريضي
الحَراك في السويداء اليوم يذكّرنا بسياق الثورة السورية منذ 2011، وانتقال شرارتها على شكل ثورات محليّة تباعاً: من درعا مهد الثورة إلى حمص عاصمتها وألقها وتضحياتها، و من ريف دمشق ودير الزور إلى إدلب وحلب.
انتزع حراك السويداء حق التظاهر، وتحرر العمل السياسي، وحرية التعبير؛ لكنه يبقى محاصراً كأخواته السالفة الذكر بعيداً عن امتداده الوطني في وطن حوّله نظام الأسد إلى زنزانات منفردة معزولة عن بعضها بعضاً، ولم تكسر جدرانها في عقود إلا تضحيات لكل سوري وطني من أبناء الثورة أن يفخر بها هويّة سوريّة جامعة عمّدها رافضوا الظلم كلٌّ بطريقته مدنيّة كانت أم علمانية أم متديّنة، سلميّة كانت أم عنيفة لم تستطع متابعة مواجهة براميل النظام وإجرام الميليشيات الايرانية والسوخوي الروسية المجرمة.
يعوّل كثر من السوريين على ثورة السويداء.
ومن جهتها، تقترب مساعي القوى السياسية فيها من تشكيل اتحاد للقوى السياسية في الثورة المحلية، إن كان في الهيئة الاجتماعية للعمل الوطني أو الهيئة السياسية، ومختلف الكيانات القديمة منها والناشئة تزامنا مع الحراك، تسعى إلى توافق يحفظ تنوعها الغني تحت سقف واحد اختارته ساحة الكرامة مناديةً بتنفيذ القرار الأممي ٢٢٥٤ وإسقاط نظام الأسد.
نترقب الوصول إلى هذا التوافق المأمول بأسرع ما يمكن، و نراهن على نجاح المساعي المبذولة من الجميع خلال أيام؛ وهو ما يفتح الباب عريضاً للامتداد الوطني لتجدد ثورة السوريين.
بدورها، الهيئة الروحية متكافلة ومتضامنة، اضطلعت بدور إيجابي في مباركة هذا التوافق وحراك الشارع بسقفه الوطني، يعوَّل على مباركتها لصوت الناس مع حفاظها على دورها بمعزل عن الخوض في السياسة ما دون الموقف الوطني الجامع كما أكدت مراراً.
إن أهمية الإسراع في تمكين حالة التوافق المحلي تعلو فوق بعض الاعتبارات، خاصة وأن القائمين على مختلف هذه التشكيلات السياسية هم رفاق الأمس؛ ويكاد ينعدم الاختلاف بين توجهاتهم التكتيكية، في حين يوحّدهم الهدف السياسي الاستراتيجي للحراك والثورة. ولا أظن أن أي مشارك في المشهد فرداً مستقلاً كان أم تياراً يستطيع تحمّل وزر تعطيل التوافق، وبالتالي الابتعاد عن إرادة الشارع.
إن التطورات الأخيرة من قصف طال المدنيين جنوبي البلاد يهدّد إحساس الأهالي بالأمان ويفرض أيضاً سبباً إضافياً للاسراع في التوافق؛ ذلك أن ملف مكافحة عصابات المخدرات لا يجوز أن يكون منفذاً لإعادة تعويم قوى معينة على حساب ساحة الكرامة. والمبدأ ها هنا واضح، فمشكلة المخدرات ليست مشكلة محلية، بل إن النظام في دمشق وأسياده في طهران هم رأس الأفعى، وقد حوّلوا سوريا إلى “جمهورية الكبتاغون”، وكل مواجهة للمشكلة دون رأسها تبقى عبثاً ينشغل بالأعراض الجانبية، وهو محرّم حرمة دماء الأبرياء على أي كان.
وأخذاً بذات المبدأ من ارتباط كل المشاكل الطارئة على البلاد باستمرار وجود نظام الأسد وحلفائه، فإن أي مبادرات محلية معنية بالهموم المعيشية وغيرها من ضرورات تنموية أو إجرائية لتنسيق الحراك أو الاهتمام بالمجتمع المحلي ومشاكله تبقى جميعاً اجتهادات جيدة، طالما انضوت تحت سقف الساحة ومطلبه السياسي تحديداً؛ لأن أصل كل المآسي سياسي، وحلّه سياسي استراتيجي، وليس تكتيكياً، فالاولوية هي للحفاظ على استقلال القرار المحلي بمعزل عن أي تدخل خارجي من خلف الحدود تحت أي مسمّى مبتدع قد يقزّم السقف الوطني لحل مشكلة السوريين جميعا.
قد يقول قائل إن تنفيذ القرار الأممي ٢٢٥٤ وإسقاط النظام بعيدٌ عن الواقعية، وقد طال انتظاره، وفشلت كل المحاولات بغياب إرادة دولية حقيقية، ولكن هذا ليس إلا تبريراً لفتح الثغرات في جدار الساحة واستقلالها؛ حتى وإن كان عن حسن نيّة في بعض الأفكار التنسيقية الاجرائية من تشكيل تجمعات وأطر متعددة للتظاهر وغيره.. أو من طرح أفكار تنموية تبدو مرحلية. والأخطر هي مساعي القلّة لترويج تحالفات دون وطنية غير شفافة في مرجعيتها الفكرية والمادية، والأفكار كلها تبقى قاصرة عن تلبية حاجة الناس الماسّة إلى حل جذري لسبب كل المشاكل بتوليد مشاكل إضافية تبدو مؤقتة، ولكنها قد تتحول إلى الأكثر ديمومة.
السوريين في مختلف أرجاء البلاد يعانون شظف العيش، وكل المآسي التي تسبَّب النظام بها تاريخياً؛ أما الحلول المؤقتة بشأن معيشتهم فهي تعالج بتكافل الأهالي. ويكاد لا يخلو بيت من مهجّر أو مغترب؛ والحل يكون بالإنجاز السياسي خطوة فخطوة، مكتسباً بعد مكتسب، و بتطوير أدوات الحراك في السويداء وغيرها بالتوافق السياسي قبل أي شيء، ثم تفعيل النضال المدني لاسترجاع مؤسسات الدولة والمجتمع، وهي ملك الشعب السوري و”ما هي لبيت الأسد “.
إنه استرجاع المؤسسات الخدمية إلى دورها في خدمة الناس والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني وحتى الكيانات التقليدية الاجتماعية وغيرها. وكل ذلك تزامنا مع النضال السياسي على مستوى وطني، نضالٌ يلتف حول “وثيقة وطنية” جامعة لكل السوريين الراغبين في رفع الظلم. أما سبيله فواحد لا بديل له بتنفيذ ٢٢٥٤ وإسقاط النظام، وهو الطريق الذي بَنَت ساحة الكرامة في السويداء بوابته الجديدة امتداداً للثورة السورية؛ فهو دربٌ رصفته همم ملايين السوريين، يشبه بازلت بلادنا مع أن بواباته معمّدة بالتضحيات الوطنية في الجنوب وصولا إلى الشمال شهداء ومعتقلين ومهجرين، ومن حقّهم اليوم أن تشع الثورة المحلية في السويداء بطرح سياسي متكامل للنضال في الداخل والخارج؛ ومن واجبهم أيضا أن يكرّسوا الامتداد الوطني لتجدد الثورة وفاءً منا جميعا لتضحيات الذين رحلوا على ذات الطريق.
حراك السويداء يسعى للتقدّم خطوة على منظومة الاستبداد الأسدية ؛ فالمنظومة تستنفر بصمت وبكل ما أوتيت من خبث وفتن واحتواء وتشغيل أدوات لوأد تجدّد ثورة السوريين في بقعة طالما خدعت العالم بحمايتها كأقلية؛ ولا يستقيم وصف ما يحدث بالإرهاب “الإسلامي”، الذي وصمت به ثورة السوريين عامةً. فعندما أفلست من كل ادعاءاتها وأكاذيبها، وصلت الأمور بمنظومة الاستبداد مؤخراً إلى استغلال حاجة الأردن لمحاربة استباحة كبتاغون الأسد لتعهير سيادة سوريا بترك الطائرات الأردنية تستبيح أرض وأرواح مدنيين سوريين؛ وبذلك تنوب عنها بتذكير أهل السويداء بالبراميل المتفجرة.
علينا أن نتذكّر أن ما يشغل المنظومة الآن هو الحساب العسير الذي ينتظرها بعد غزة. فعقود التخادم لسيدها الايراني، وعقودها بالمعية قيد المراجعة. والتوجه، هو الاستغناء عن خدماتها. ومن هنا تصرف جلَّ وقت استنفارها على التنصل وابتداع خدمات تصل حد الانسحاق أمام المحتل من أجل البقاء.
حال كهذا يجعل حراك السويداء في حالة استنفار أيضاً، للحفاظ على الخطوة المتقدمة أولاً، والتفكير بأن الدوران في المكان، أو الوقوف في منتصف الطريق أمران يستحيل احتمالهما؛ فهذا النظام الحقود ديدنه الانتقام، وما عرف التسامح يوماً وخاصة مع سوري. ومن هنا تحضر حاجة الحراك الملحّة إلى مضاعفة الخطوة المتقدمة مرّات؛ وعلى رأس الإجراءات ترتيب البيت الداخلي عبر توافقات يتمخض عنها جسد بعنوان و رؤية ومشروع ونهج سياسي ريادي يرقى لتضحيات شعب قلَّ نظيرها.