د.ممتاز الشيخ
وتيرة التقدم التكنولوجي خلال العقود الخمسة الأخيرة تركت تأثيرها الواضح على البشر وعلاقاتهم الاجتماعية التي لم تشهد قفزات كبيرة على مر مئات السنين توازي ما شهدته بنى المجتمعات خلال العقود الأخيرة.
بقيت وسيلة المواصلات الأكثر استخداما في محيط قريتي حتى منتصف السبعينيات من القرن الماضي هي الدواب، وفي حالات خاصة واضطرارية استخدمنا السيارة. وفي تلك الأيام جلست لأول مرة أمام جهاز التلفاز. في بداية الثمانيات صار في بيتنا هاتف أرضي! وبعد تركيبه بأشهر قليلة سافرت إلى الاتحاد السوفييتي باستخدام الطائرة لاستكمال دراستي الجامعية.
ومع بداية التسعينيات صار في بيتنا تلفاز ملون وكثر استخدام الآليات في التنقل وأصبحت القطارات السريعة والطائرات وسيلة معتمدة للمسافات البعيدة. وعند بداية الألفية كثرت الأجهزة في بيتنا وفي غالبية البيوت من غسالة الأتوماتيك إلى فرن الليزر ومدافئ الغاز والكهرباء شتاء، والمكيفات صيفا، والحاسوب.. الخ وبعدها بقليل حل الهاتف الخليوي بتقنياته المتسارعة، ثم ما لبثت أن تكاثرت وسائل التواصل الاجتماعي وتنافست فيما بينها على استحواذ الأفراد إلى درجة أحدثت فجوة يصعب ردمها في العلاقات السائدة حتى صار أفراد العائلة الواحدة لا يجتمعون إلا في مناسبات قليلة جدا تكاد لا تسمح بأكثر من المجاملات العابرة. وصار فقدان الموبايل يعني التيه بعينه حين ارتضينا أن يصبح الموبايل دليلنا وذاكرتنا وحافظ ذكرياتنا.
تطور الالكترونييات أوصلنا حد الاستعاضة نسبيا أو كليّا عن إعمال العقل البشري نظرا لتميزها في سرعة استحضار المعلومة حتى صار الاعتماد على الذاكرة وإعمال العقل بالحد الأدنى.
استحواذ تقنيات الذكاء الاصطناعي على غالبية نشاطاتنا وزحفها لجهة استبدال العقل البشري جعلت بعض العلماء يرفعون شارة الخطر من بعض التحورات، وأدرجوا مستويات لهذا الخطر، ويقول الخبراء في هذا المجال إن بعض الروبوتات يمكنها اتخاذ قراراتها بنفسها وتنفيذ الأوامر دون الرجوع إلى بشر، وتُظهر بعض الأمثلة أن تقنيات الذكاء الاصطناعي وصلت بالفعل إلى مستويات تفوق المستويات البشرية في مجالات معينة، وهي مرشحة لتجاوزه أيضا.
حدث في أحد السيناريوهات أن برنامجا إلكترونيا تمكّن من مضاهاة صانعيه، حتى صار قادرًا على إعادة كتابة خوارزمياته ومضاعفة سرعته وقدراته خلال بضعة أشهر من زمن المعالجة المتوازية.
يوضح تقرير صادر عن شركة FastCo Design أن الفيس بوك قد أغلق برنامجاً للذكاء الاصطناعي، بعد أن طوّر الأخير لغة للتواصل خاصة به غير الإنجليزية، وبدأ اثنان من الروبوتات “بوب” و “أليس” في التواصل مع بعضهما باستخدام لغة غير معروفة لأحد. حتى المبرمجون أنفسهم لم يتمكنوا من تحديدها.
صحيح أن التشريعات البشرية يمكنها ضبط مخاطر الذكاء الاصطناعي، ولكن يصعب على التشريعات مهما توسعت أن تحيط بكل التفاصيل والتطورات الطارئة بحيث تضمن عدم انفلاته في لحظة ما.
ألم يدّعي الخبراء لدى تشييدهم كثير من المفاعلات النووية بأن وسائل الحماية التكنولوجية أكثر بكثير من إمكانية حدوث خطأ ما؟! مع ذلك حدثت عشرات الحالات التي كان لبعضها نتائج كارثية!
ففي مفاعل تشيرنوبل 1986 تسبب خطأ بسيط في نظام إغلاق توربينات المياه المستخدمة في تبريد اليورانيوم المستخدم مما أدى إلى ارتفاع حرارة اليورانيوم بالمفاعل إلى درجة الاشتعال، فكانت الكارثة. قوة الانفجار كانت أكثر بـ 400 ضعف من قنبلة هيروشيما
ووفق تقارير رسمية، تعرض ما يقرب من 8,5 مليون شخص في محيط المفاعل إلى الإشعاع، وتعرضت 155 ألف كيلومتر مربع من الأراضي إلى التلوث. وماذا لو عرفنا أن العالم يحتوي اليوم على حوالي 430 محطة طاقة نووية، نصفها تقريبا مفاعلات عائمة مثبتة على غواصات
رصد المؤرخون أكثر من 10 حالات حرجة وقعت خارج دائرة التحكم فخلال أزمة الصواريخ أو (الكاريبي) بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي 1962 قامت دورية أميركية مضادة للغواصات بإلقاء قنابل أعماق حول غواصة سوفييتية لإجبارها الصعود إلى على السطح، الأمر الذي أدى إلى اعتقاد قائد الغواصة بأنه يتعرض إلى هجوم وكاد الرد أن يكون بإطلاق طوربيد نووي باتجاه الدورية لولا فائض الحكمة. وفي حادثة أخرى حلقت طائرة تجسس أميركية عن طريق الخطأ فوق الأراضي السوفييتية، ما أثار مخاوف خروتشوف آنذاك الذي اعتقد أن واشنطن تستعد لشن هجوم نووي استباقي، إلا أن تحليلا بشريا ذكيا وسريعا للموقف حال دون الرد على الهجوم الاستباقي!
وفي ظروف الحرب الروسية – الأوكرانية اليوم واصطفاف الدول الغربية كلها تقريبا في مواجهة روسيا المتذمرة جدا من هذا الاصطفاف، فالعالم كله واقع ضمن دائرة خطر استخدام الأسلحة النووية التي يمكن لروسيا لو شعرت أن كرامتها قد جرحت أن تستخدم ما لديها من أسلحة للرد، فهل يمكن لأحد التنبؤ بمدى اتساعها أو تأثيرها. واحتمالات حدوث مثل هذا واردة في كل يوم بالنظر إلى تطور الأحداث وتسارعها خاصة وأن نائب رئيس مجلس الأمن الروسي ديميتري ميدفيديف صرح قبيل الذكرى السنوية للحرب الروسية الأوكرانية (يناير 2022) بأن هزيمة روسيا في الحرب التقليدية معناه الدخول في حرب نووية.
ثمة حس إنساني تقيده الكثير من العوامل المتداخلة جعلت احتمالات الحرب في الأمثلة السابقة تتقلص حد الصفر،مثل هذا الإحساس المركب يتعذر برمجته “تقديرا” بالنسبة للآلة التي تعمل وفق أوامر محددة. ويؤكد هنري كيسنجر أحد أبرز الاستراتيجيين في العالم حذّر من أن أنظمة الذكاء الاصطناعي يمكن أن تجعل الحرب التي تحاشاها العالم لأكثر من سبعة عقود أكثر احتمالية، فبالنسبة لأنظمة الذكاء الاصطناعي فالاستراتيجية المعتمدة أقرب منها إلى لعبة الشطرنج أو غيرها من الألعاب الإستراتيجية، لأنها تدرك أن التضحية بالقطعة الأهم (الوزير مثلا) يوصل أخيرا إلى كسب النزال، وفق معطيات يشق على أي إنسان وضعها في احتمالاته.
في الحالات السابقة والكثير مثلها، هل يمكن التنبؤ بردود فعل الذكاء الاصطناعي؟!
صحيح أن الذكاء الاصطناعي يعد اليوم قاطرة التطور البشري، ولا يمكن إغفال ميزاته في الخدمة على كافة المستويات خاصة في خدمة الإنسان نفسه، بالمقابل توجد العديد من التداعيات السلبية المترتبة على تصاعد الاعتماد على تقنيات الذكاء الاصطناعي. يقول أحد الفلاسفة ثمة نزعة أكيدة عند البشر تتجسد بالرغبة في تدمير الذات!! فعندما يأكل البشر أكثر من الحد المطلوب للبقاء، وعندما يدخنون ويسهرون ويشربون ويسرفون أو حتى عندما يغامرون بالتجارب وكلها تؤدي بالتراكم إلى تدمير الذات.
يقول جيفري هينتون أحد رواد بحوث الذكاء الاصطناعي الذي يلقب بـ “عراب الذكاء الاصطناعي” سيأتي الذكاء الاصطناعي على المدى المنظور بالعديد من المزايا الإيجابية. ولكن على المدى الطويل قد يصعب تجنب مخاطره.
يعد الذكاء الاصطناعي قاطرة التطور البشري القادم، فلا يمكن إغفال المميزات التي يقدمها لخدمة البشر على كافة المستويات، بل أن تطويره في كثير من المجالات يهدف في الأساس إلى تحسين حياة البشر والحفاظ على المجتمع البشري لكن تبقى هناك الكثير من الأسئلة والقضايا الأخلاقية والفلسفية الكثيرة التي لابد من الإجابة عليها تتعلق بالهواجس الأخلاقية التي يتعلق أكثرها في القيم الإنسانية كالحياء والأخلاق والتسامح والتقدير والكثير الكثير الذي بقي ضمن دائرة خصوصية الإنسان وانفراده بها.
ولضمان الحفاظ على هويتنا الإنسانية المزودة بتعقيدات كثيرة خاضعة للتقدير والقياس والتي يصعب تأطيرها بأوامر محددة يقتضي الأمر الحفاظ على طبيعة النفس البشرية والحفاظ على خصوصيتها وإلا قد يفقد الإنسان وضعه بين الكائنات والمنتجات الأخرى.