ملك توما
منذ مايقارب عقداً من الزمن على تصاعد موجة اللجوء السورية إلى القارة الأوروبية حيث مئات الآلآف الذين عبروا بكل طرق التهريب و الخلاص الممكنة فراراً من بطش آلة الحرب التي يقطع بها نظام الأسد شرايين الحياة في عموم المناطق السورية -ويستمرالوضع على ما هو عليه دون أفق لحل سياسي –
المشاهد السريالية المأزومة من الحرب والموت والإرهاق، صنعت من الأمل والإشراق صناديق ومراكب لحياة أكثر دماثاً ، هذا الخيط الذي لم ينقطع مابين التشبث والتخلي المغروس في الروح الإنسانية، إذ كان وصول الناس إلى تلك القارة الباردة تاركين ورائهم نار ونور شمسهم، ليبدأ الزمن يدق عقارب مواعيد القراءات مع الذات التي أنضجت الفكروالفكرة، وما تلاها من مراجعة التصورات العميقة والبسيطة في آن معاً المكنونة في بواطن الإنسان هذا القادم من الشرق المتعب من لعبة الحرب .
لقد هاجرالناس من أنفسهم مثل هجرتهم من بلادهم الحزينة، لإعادة اكتشاف إرهاصاتهم، لمحاولة ولادة إنسان آخر ناج لا ضحية ،يحاول التمظهر في الرضى و التأمل و بناء المعرفة من جديد مع الزمان و المكان و البيئة الأصلية والبيئة الأخرى ، ويصحح علاقة الإنسان المواطن مع الدولة والمؤسسات الأمنية و السياسية والخدمية ، لتكون القصص الحية تحمل جانباً استثنائياً،ملفتاً ومثيراً للاهتمام.
نضرب بعض الأمثلة من قصص السوريين والسوريات ضمن الحياة الأوروبية ألا وهي ” حضورالنساء السوريات في المعترك السياسي الأوروبي ” في محفل يمتاز بسمات إيديولوجية مستنيرة وأنظمة تبني الديمقراطية منذ عشرات السنوات ، استطاعت عدد من الشجاعات اقحام أنفسهنً في تجربة حلم كان بعيداً يوماً ما في سوريا ، فمثل هذا التفصيل ليس سهلاً على الإطلاق تجاوزه، فإذا تحدثنا بلغة النسب التمثيلية فإن في سوريا لا تتجاوز نسبة النساء في البرلمان 12% و لم تحصل النساء في أي وازرة على حقيبة سيادية و اقتصرت على حصولهن على وزارات الشؤون الاجتماعية والثقافة وشؤون الأسرة فحسب ومن جهة ثانية فالنساء تتجاوزن الرجال بنسب طاغية في انتماءهنً إلى إرث شرقي غير متسامح في العمل السياسي ، لديهنً صورعالقة في الذهن عن الأمن الذين سحبوا أحد رجال العائلة أو جميعهم دفعة واحدة إلى السجون والمعتقلات .
على الضفة المقابلة نتناول قبيح ماتم تصويره عن اهتمامات “المرأة المثقفة الغاضبة” التي ترتدي نظارات طبية مستطيلة الشكل وتملك شعراً مجعد غير متناسق، ” مسترجلة ” تزاحم الرجال ميدانهم ، تتابع نشرات الأخبار أو التي تقرأ صباحاً في الجرائد الرسمية ، في حوزتها كتب ممنوعة من النشر والتداول .
هذه الصورالتي لعب الإعلام والحكايا الشعبوية على ترسيخها “ما سبب عطالة فكرية كبيرة ” ما جعل الكثيرات يخفين حبهن للعمل السياسي والمشاركة السياسية الفاعلة أو اكتفينً مع بعض الدوائرمداولة الأحاديث وبعض النشاطات السياسية .
فلم تكن الدول القمعية من تمنع مشاركة النساء فقط! لا بل الأعراف المجتمعية المحلية شريكة ومستفيدة في تعزيز تموضع الصورالنمطية التي تفرض الأقنعة التقليدية على النساء، وتملي شروط لأدوارهنً الطبيعية بشكل قسري، هنا نتحدث تحديداً عن نساء المتعلمات من الطبقة الوسطى والمهمشة من جيل الأمهات في القرن الماضي – قد عزفنً عن الطريق بسبب التعبئة العنيفة لكل ما هو مشاركة سياسية للنساء-
” كان الواقع عصيباً على التنوير والذهاب للأفضل لعقود طويلة عاشت وماتت الكثيرات في الظل قدمنً وضحينً دون أن يحصلنً على فسحة لحياة افضل ، لكن بعض الأماني للنساء الأوائل اللواتي عقدنً الآمال على القادمات هنً شعلة التغيير” وهذا ماكان في اندلاع ثورات الربيع العربي في العواصم والمدن العربية ما حرك الشارع الإلهام عند النساء المحليات ليخرجنً إلى النور في الساحات والاعتصامات، وتحول الكثيرات منهن لرمز الإلهام الثوري النسوي .
بالتزامن مع ظهورالنماذج العالمية في المشاركة السياسية النسوية أمثال المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي قادت ألمانيا الاتحادية لسنوات في جوقة إنجازات مهمة للمواطنين وللاجئين السوريين عموماً، والسياسية الأمريكية هيلاري كيلنتون التي عملت طوال حياتها على برامج دعم النساء في العمل والقيادة في الولايات المتحدة إضافة إلى البرلمانات الأوروبيات، وغيرهن ًالسفيرات والعاملات في الملفات الدبلوماسية والوكالات الأممية والعديد من الصحفيات الشجاعات اللواتي عبرنً الحدود لتغطية الحرب السورية.
وفي السياق ذاته لا يمكن إغفال العامل المباشر في انفتاح الأنظمة الأوروبية للاجئ بكونه إنسان بدون تمييز بين كونه امرأة أو رجل، وتعامله معاملة المواطن الأصلي في أغلب ممارسات الحقوق والواجبات إلى جانب ذلك نرى ترحيب الأحزاب لضم الشباب والشابات من مختلف العرقيات والإثنيات والمشارب الفكرية والسياسية إلى هياكلها التنظيمية .
كل ماسبق تناوله هو مقدمات منطقية تتوالى في” الوعي النسوي السياسي ” للشابات السوريات لتشكل مخزون تحرري يتخلص من عبء الإرث المقيد وفق معطيات المرحلة التي جعلت من تجربة اللجوء خياراً لمدخل آخر ينطلقنً منه في ميدان المعترك السياسي المنظم، وصولاً إلى صناديق اقتراع الانتخابات المحلية لدى الأحزاب التي تشكل تاريخاً أصيلاً من الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير ، يقدمنً نموذجاً شاباً باسم الأصوات اللاجئة في البلاد الأوروبية لدعم قضاياهم العامة ونقل صعوباتهم والاحتفاء بنجاحاتهم، ويدعمنً تمظهر صورة الإنسان السوري الإيجابية التي تبحث عن الفن والسلام والموسيقى التطوع والعمل الخيري .
وهنا يصبح التعويل مرة ثانية على” الوعي النسوي السياسي ” لأن قضية اللجوء السورية بعد عام 2015 لها أسباب سياسية وإنسانية حرجة، وليست هجرة طبيعية شكلت جالية سورية على الرغم من وجود تلك جالية سورية قديمة منذ عشرات السنوات تعيش في ألمانيا، وليست كمثيلاتها كموجة العمالة التركية التي جرت باتفاق اقتصادي مشترك بين ألمانيا وتركيا في ستينات القرن الماضي، لذلك يكون لزاماً على كل يتقدمنً إلى العمل العام في دول اللجوء والشتات أن يوجهنً الرأي العام إلى السبب السياسي الأول الذي أدى إلى ذلك التدفق البشري إلى دول الاتحاد الأوروبي، والعمل على استجلاب ماهيات للحل السياسي المستدام إلى الطاولات الدبلوماسية، مع التطلع لبناء استراتيجيات تحالف من الأدمغة التي اختلطت مع الشعوب و الدول في الجامعات والمحافل الأكاديمية والفكرية والفلسفية .