أسامة آغي
لا يمكن الحديث عن استثمار اقتصادي في الشمال السوري المحرّر بدون توفير ظروف تلائمه، هذه الظروف يمكن تحديدها بأمرين اثنين، الأمر الأول وجود أمن داخلي حقيقي، تقوم به مؤسسة تمتلك صلاحيات ضبط الأمن وفق القانون. الأمر الثاني وجود قضاء مدني حقيقي ومستقل، أي قضاء لا أحد يتدخل بإجراءاته وأحكامه التي تستند إلى القانون.
أمرا (الأمن الداخلي، القضاء المستقل) لا يمكن تحقيقهما بدون تمكينٍ حقيقي للحكومة المؤقتة المنبثقة عن القيادة السياسية لقوى الثورة والمعارضة (الائتلاف الوطني السوري).
كذلك لا يمكن للحكومة المؤقتة القيام بإدارة شؤون مناطق الشمال المحرر بدون حوكمة سياسية، هذه الحوكمة بشقيها السياسي والتشريعي، ينهض بها الائتلاف الوطني السوري عبر هيئتيه، التشريعية، وتقوم بها الهيئة العامة للائتلاف الوطني، والسياسية، وتقوم بها الهيئة السياسية المنتخبة من الهيئة العامة.
الحوكمة السياسية التي يمثلها الائتلاف الوطني تحتاج إلى وجود مكاتبه في المحرّر، وتكون هذه المكاتب على تماس مباشر مع الحياة الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية في هذه المناطق، بحيث تراقب أداء الحكومة المؤقتة، وتسعى دولياً لتمكين هذه الحكومة في بسط سلطة القانون، عبر دعم المناطق بمساعدات إنسانية ضرورية في هذه المرحلة، والسعي لفتح أبواب استثمارات اقتصادية، تتلاءم وقدرات هذه المناطق المتوفرة، سواءً البشرية منها أو الطبيعية.
الحوكمة السياسية تحتاج أيضاً إلى رسم خارطة طريق بشأن تمكين الحكومة المؤقتة، أي أن تكون هذه الحكومة هي السلطة الإدارية الوحيدة في الشمال السوري المحرّر فعلياً لا شكلياً، وهذا يقتضي تعميق عمل أهم وزارتين تختصان بامتلاك السلاح، وزارة الدفاع، ووزارة الداخلية. ويتمثل عمل وزارة الدفاع بحماية حدود مناطق المحرر ومنع العدوان عليها، بحيث تتحول الفصائل العسكرية التابعة لهذه الوزارة إلى جيش احترافي غير متدخلٍ بشؤون الحياة المدنية، والسياسية، والاقتصادية، وغيرها من شؤون الحياة في هذه المناطق.
وأن تكون وزارة داخلية الحكومة المؤقتة هي الجهة الوحيدة المسؤولة وفق القانون عن ضبط الأمن الداخلي، بما يتفق مع لائحة حقوق الانسان، وإن بحدودها الدنيا في هذه المرحلة، تمكيناً لفرض النظام واحترام الإنسان.
وفق ما ذكرناه من رؤية، يحتاج كلّ ذلك إلى تنسيق تام وحقيقي مع الضامن التركي، إذ من مصلحة الأخير سيادة الاستقرار في حدوده الجنوبية، أي في جميع مناطق الشمال السوري عموماً، وفي مناطق الشمال المحرّر خصوصاً، فوجود حوكمة سياسية وحكومة مؤقتة قادرة على فرض النظام في هذه المناطق، سيساعد في منع أي اعتداءات من القوى المعادية على أمن الجمهورية التركية، وهذا يتحقق مع تقوية وتمكين الحوكمة السياسية للائتلاف الوطني وتمكين الحكومة المؤقتة في النهوض بأعباء إدارتها لشؤون المحرّر.
وعلى قاعدة ما تقدّم، رعت الحكومة المؤقتة انعقاد ست ورشات عملٍ تحضيرية لعقد “مؤتمر الاستثمار الأول في المناطق المحرّرة”، الذي سينعقد في مدينة الراعي في يومي (17 و 18 ) كانون الثاني / يناير 2024.
يبدو أن سعي الائتلاف الوطني لحشد كل الدعم من أجل استقرار مناطق الشمال السوري المحرّر، ينبع من قناعة لدى قيادته الجديدة، بأن الحلّ السياسي المستدام في سورية، والمرتكز على الانتقال السياسي بموجب قرارات الشرعية الدولية، وفي مقدمتها القرار 2254، لا يزال رهن القوى المنخرطة في الصراع السوري، وفي صراعات وملفات دولية عديدة، وبالتالي لا يزال التوافق بينهم على الحل السياسي للقضية السورية غير منظور في هذه المرحلة.
وكي لا يبقى الشمال السوري المحرّر مناطق تتراجع فيها القدرة على العيش والإنتاج والتطوير، ارتأت هذه القيادة ضرورة النهوض بهذه المناطق اقتصادياً، واجتماعياً، وثقافياً، وسياسياً. وهذا لا يمكن أن يحدث بدون خطة عملٍ ترتكز كما ذكرنا على حوكمة سياسية، ينهض بها الائتلاف الوطني السوري، تساعد على تمكين إدارة الحكومة المؤقتة لهذه المناطق.
إن القوى السياسية السورية المختلفة، بغض النظر عن أيديولوجياتها، وأهدافها، معنية بالالتزام بجعل مناطق الشمال السوري المحرر مناطق استقرار. هذا الاستقرار وفق الأوضاع الداخلية السورية مسدودة الأفق، ووفق عدم وجود عتبة اتفاق دولي بتنفيذ القرار 2254، الصادر عن مجلس الأمن بالإجماع في 18 كانون الأول / ديسمبر عام 2015، ضرورة لتحسين أوراق الضغط على المجتمع الدولي، من أجل تنفيذ قراراته الخاصة بالصراع في سورية، ومن أجل تحويل هذه المناطق إلى واحة استقرار شامل، ينبثق عنه تطوير اقتصادي، يمنع الهجرة والبحث عن فرص العمل خارج هذه المناطق.
إن الاستقرار الشامل الذي تعمل عليه قيادة الائتلاف الوطني السوري، سيسمح بالضرورة بجلب الاستثمارات بصورة عامة، هذه الاستثمارات ينبغي فتح الآفاق لكل عملياتها بصورة قانونية وبوجود ضمانات سياسية، بما فيها ضمانات من الحليف التركي، على صعيد تسهيل عمليات التصدير والاستيراد للمنتجات والسلع التي تنتج عن الاستثمار في الشمال السوري.
إن نجاح مؤتمر الاستثمار الأول الذي سيعقد في مدينة الراعي خلال أيام يحتاج إلى تسليط ضوء إعلامي كبير على مجرياته ومخرجاته، كي يطلع المعنيون بالاستثمار على هذه الخطوات الكبيرة والمحمية بالقانون.
بقي أن نقول، إن الاستثمار الاقتصادي بشتى الفروع (الصناعية والزراعية والخدمية والاعلامية) يحتاج إلى سياسة الشفافية في كل مراحل الاستثمار، لمعرفة الخلل إذا ما كان هناك خللٌ، وذلك لتجاوزه، وهذا يمهّد الطريق للنجاح.