حذر الزعيم الماركسي ماو تسي تونغ مواطنيه من أن يصبحوا عبيداً للديمقراطية أو عبيداً لليقينية الماركسية.
كما حذر المناضل الإفريقي الماركسي بادومور من الخطأ الذي وقع فيه كثير من الماركسيين في تحويل تعاليم أستاذهم لينين إلى عقيدة دينية بدلاً من اتخاذها أداة فكرية لفهم تطور المجتمعات البشرية.
يمكن تسمية ذلك بلغة أحد الباحثين بـ”قرآن – لينين” والماركسية، وهو ما يتفق مع مقولة التوثين قبالة التقديس التي تم تفكيكها في مقال سابق.
ليس بخافٍ على مثقف في العالم العربي نتاج المفكر السوري د. برهان غليون، من مؤلفات عدة وتنظيرات بدأت بـ “بيان من أجل الديمقراطية” الذي أصدره في أوج قوة النظام وصلفه، مروراً بتحديات الثورة السورية وبقائه سياسياً تجاوز تخندقات السياسة والأيديولوجيات المتنافرة وحرب الثنائيات التي عملت في تشظية الشارع السوري.
وقد شارك منذ أسبوع في لقاء بودكاست سرد فيه جزءاً من تاريخ الحركة الوطنية السورية، من موقع المثقف والباحث والمفكر الذي عاصر شطراً كبيراً من تحولاتها، وناقش فيه دور النخب السياسية ودحض فيه التصور القائل بوجود النزوع الطائفي لدى الأقليات قبل حكم البعث. كما طرح مفهوم السلطة كتفسير لأغلب التشكلات التي استثمرت في العمل السياسي حينها.
غير أن من يتفكر في حال ثلة من المثقفين العرب إذ يحتفلون بأدونيس بشعره وتنظيراته، الزاحف لأجل جائزة نوبل والمطبل للثورة الإيرانية وهو الرافع عقيرته تحت ستار العلمانية؛ التي بات أمرها مثيراً للشفقة في خضم جملة ما طالها من تشوه على أيدي مثقفينا أنفسهم، يعتبر كثيرون أدونيس مفكراً ومنظراً. كما يتم الاحتفاء بممثل هنا لينظر عن الدولة أو الدين، مثلما يتم اختيار رقاصة لتكون رمزاً للأم المثالية مما يفضح هُزل جزء من ثقافتنا وانفتاحها على الجهلة والمروجين وأصحاب السلع ونجوم الميديا في عصر التفاهة.
في حين يتم الترصد لمفكر مثل الدكتور برهان غليون، أستاذ السوربون الذي لم يفكر بممالأة أحد، وبعد خروجه من مؤسسة الائتلاف السوري اعتكف للكتابة، وسعى عبر زيارات ولقاءات عدة لإعادة بث الروح في نفوس السوريين المهاجرين، وقدم مراجعات لمرحلة الثورة، وتناول عوامل العطالة الذاتية والظروف الموضوعية التي تلبستها، سعياً لاستنهاض روح الشباب السوري في الشتات.
ونظراً لنقده اليسار السوري وبقية أنساق التوجه العلماني السوري وتحزباتها في لقاء البودكاست المذكور، وبدلاً من الاستفادة مما طرحه، خصوصاً وأننا في مرحلة تستدعي إعادة قراءة كثير مما تم اعتباره مسلمات مقدسة تكاد تصبح عقيدة لدى معتنقيها، شُنت عليه حملة اتهامات تطول فكره ونهجه السياسي.
إن قراءة ردود الفعل تلك، تدفع باتجاه الدعوة لإعادة تبيئة مفاهيم علمانية الدولة وفصل الدين عن السلطة وليس المجتمع؛ تلك التي أطلقها مراهقون كثر في غمرة عقدهم من الدين كله، وباتوا يعرفون أنفسهم على أنهم علمانيون رغم أن العلمانية صفة الدولة. كما تدفع نحو ضرورة تحديد مفهوم واضح الحدود للعلمانية التي لا تعني -وفقاً لما يرى بعض أدعيائها- العداء للدين، سواء انطلاقاً من توجه إلحادي لا يملك أحد مصادرته، أو توجه أقلوي مرتبط بعقد مظلومية كانت جزءاً من سرديات عصبية تفتقر للقيمة العلمية وينكرها كل ذي فكر رصين من أبناء الأقليات نفسها. وهاهو د. مازن أكثم سليمان السوري المتحدر من أقلية يقول:
“معظم علمانيِّي الأقلِّيّات في العالَم العربي وفي سوريا فهموا العلمانية منذ القرن الماضي خطأ، كأنها دين إلحادي ضدّ الدين الإيماني، وهذا خلل معرفي بمنزلة الفضيحة، فالعلمانية هي نظام سياسي يرتبط بشكل الدولة وحياديتها، ويمكن أن يكون الفرنسي متديناً ويذهب إلى الكنيسة، في الوقت نفسه الذي يؤمن فيه بعلمانية الدولة الفرنسية. لكن علمانيي الأقلِّيّات في بلاد الشام والعراق فهموا العلمانية كأنها أيديولوجيا مواجهة مع الدين السني الأكثري فقط، وهنا تكمن فضيحتهم الكبرى. لذلك رددت كثيراً أنني لا أصدق علمانياً سورياً لا يبدأ بنقد البنية الطائفية الأقلوية التي ينتمي إليها بالولادة أو بالبيولوجيا وتفكيكها جذرياً قبل التوجه إلى نقد الإسلام السني الأكثري”.
ليس الحديث نافلاً بل يشكل نقطة انطلاق لا بد أن يتم تناولها بنهج معرفي موضوعي متئد يحاول استكناه معضلات يسارنا المحنط، مثلما حفلت صفحاتنا بضرورات التجديد الديني. يمكن رصد فعلين ضمن ما يظهر في الوسط الثقافي؛ أولهما تشظي النخب تبعاً لثنائيات متنابذة بين يمين ويسار ظهر فيها نسق يدعي العلمانية والحداثة، احتكر المنابر الثقافية وسياسة الترويج الهش؛ تحت مقولات متعالية معيارية تقرأ الإسلام وفقاً لثنائية عقل ونقل، مع تكريس الإشارة غالباً للمؤمنين المسلمين بالجهل والتخلف؛ ضمن ظاهرة تنميط هستيرية تعميمية تحت ستار العلم والمعرفة.
ورغم تحديد الإسلام مناهج النقل واشتراط علوم الفقه بضوابط علمية تخضع لإعمال العقل، لكن تجديداً فيما شابه من مرحلته الصوفية والتقليدية لا بد أن يحدث على أيدي علمائه المستقلين عن أي سلطة.
ثانيهما فعل آخر يتم خنقه وإخفاؤه حيث مثلما تم التنظير لوجود مشيخات وفقهاء سلطة، ومتنفعين ومرتزقة وأصوليين تكفيريين في الجانب الديني، يمارس كتما لكل محاولة قراءة موضوعية لمفاهيم مركزية في الدولة والمجتمع كالعلمانية والحداثة والتنوير.
بل ونجد تكفيراً مقابلاً طالما تمت ممارسته ضد الآخر المسلم، تحت سعار محاربة التطرف الإسلامي الذي لا يشكل نسبة تقارب التطرف المقابل.
وإن كان لا بد من استخدام مفردة احتكار الحقيقة والتكفير التي حفلت بها معاجم ثقافة اليسار الأقلوي عموماً، فلا يمكن تصوير تطرفهم في إلغاء من يقدم فهماً مختلفاً عن نزعاتهم الموتورة سوى بالتكفير. إذ حول هؤلاء العلمانية إلى احتكار حصري مرخص باسمهم وصاروا شيوخها وفقهاءها وكهنتها الذين لا يشق لهم غبار ولا يقبل نقداً أو اعتراضاً.
ترافق ذلك مع محاولة حثيثة لتعويم فريق منهم من شأنه تشويه الأقليات نفسها ومثقفيها الذين التزموا نهجاً علمانياً خارج أطر ذاك الاحتكار الحصري.
وفي خضم انتشار مقولات ضرورة الإصلاح الديني، لا بد أن نتحسس ضرورة الإصلاح العلماني. يجب أن يتنطع له مثقفون ومفكرون لتخليص العلمانية ممن اختطفها لتكون جسراً لعبور نزعاته وعقده، ولتشذيب العلمانية مما علق بها من مقلدين ومدعين وجدوا في فوضى انفتاح العالم وشبكات التواصل مجالاً للتفلت من كثير من القيم.
ولعلنا نذكّر أن من حارب داعش في سوريا هم المسلمون أنفسهم من ذوي التوجه الإسلامي ومن شرائح ذات تدين شعبي تشكل جزءاً كبيراً من المجتمع السوري؛ وتحول سلاح جزء من أبنائها إلى سلاح ضدنا بدلاً من أن يكون لنا، بسبب فشل مثقفينا وانسياق أحزابنا وكتلنا السياسية في تشكيل مشروع يضمهم منذ بدء الثورة. ومقابل مقولة فصل الدين عن الدولة الذي يعني في حقيقته فصلاً للدين عن السلطة وبقاءها حيادية بالنسبة لمختلف الأديان، نجد من الضرورة بمكان طرح مقولة فصل العلمانية عن الأفراد الذين باتوا يشكلون تيارات تميزهم عن غيرهم ويتعالون بها على الجميع تكريساً لتفارق وتنابذ اجتماعي مقيت.
وإذا ما تم النظر للمجتمع ككل، يمكن القول بأن كل مجتمع متنوع هو علماني بالفطرة أو بالعقد الاجتماعي الذي أسسته الأعراف. بل يمكن المجازفة بالقول إن الدولة العثمانية كانت علمانية إذا ما تتبعنا نمطها الإمبراطوري الذي اتسع لكل العرقيات والأديان. ويصبح المجتمع كله علمانياً (في تصور حيادية الدولة) بما في ذلك الإسلاميون الذين يرفضون العلمانية بموقف صلب، وكم يبدو ناجماً عن تشنج من الطرح العلماني الفج الذي يسوقه يسار تقليدي متخشب لم يطور أدواته ولا مبادئه. ولعل الجابري أدرك ذلك حينما اعتبر أن العلمانية تخلق مشكلات في مجتمعاتنا أكثر مما تقدم حلولاً باعتبارها اتجهت إلى ما يمكن حسب فهمنا نزعة وتخندقاً بدلاً من أن تكون مبدأ أو نهجاً تختص به الدولة التي تقف على مسافة من جميع أفرادها. وقبالة مفهوم فصل الدين عن الدولة الذي يتصدر طروح أولئك؛ يصبح من الضروري فتح المجال لفهم العلمانية والحداثة والتنوير وفقاً لثقافة مجتمعاتنا وأخلاقها وقيمها وسياقاتها التاريخية وجملة الشروط الموضوعية التي تجعلها قابلة للتحقق بعد تبيئتها بما يلائم هذه المجتمعات وذهنياتها ومرجعياتها التاريخية. فصل الدين عن الدولة وفصل العلمانية عن الأفراد.
موقع تلفزيون سوريا