إبراهيم الجبين
على السوريين أن يعترفوا بتأخرّهم، تأخّرنا جميعاً، عن حِرفيّة الفعل السياسي المؤثر وعلميّته وأدواته، مثل تأخّرنا التكنولوجي في مجالات عديدة، فالتنمية لا تقتصر على الاقتصاد وحده، بل تشمل جوانب النشاط الإنساني دون استثناء، تأخّر حقيقي لا يمكن إنكاره، بسبب عشرات السنين من التصحّر وحظر العمل السياسي وتخلّف البيئة المحلية المحيطة بنا وشحّ مواردها، سواء في سورية (الداخل) التي لم يكتسب فيها أعتى المعارضين أكثر من كفاءة العناد والتمسّك بالمبادئ وتحمّل الاعتقال الطويل والحفاظ على الحد الأدنى من التنظيم في الأحزاب والتنظيمات التي مزّقها الأسد الابن ثم ابنه من بعده، أو في المنافي والمغتربات حيث لم يكن من بين اهتمامات السوريين ما يمكن أن يسمى عمل “اللوبي” الضاغط.
وحتى صدور قانون “قيصر” عام 2020 لم يكن لدى الجالية السورية الأميركية ولا المنظمات التي حاولت تمثيلها، خبرة كافية بمعنى “اللوبيينغ” والمناصرة المهني، وكانت غالبية جهود تلك المنظمات منصبة على إقامة الحفلات والفعاليات الخيرية لجمع التبرعات وما يسمى بنصرة الشعب السوري من دون الدخول من الأبواب الصحيحة للتأثير في صناع القرار.
كان ذلك الواقع واضحاً وجلياً لدرجة أن البدء بتغييره كان حدثاً بحد ذاته، بحيث احتفل السوريون في الداخل وبلاد اللجوء والمغتربات بانطلاقة جديدة مثّلها تعلّم السوريين في الولايات المتحدة لكيفية التحوّل إلى “لوبي” ضاغط. ولا بأس بالتعلّم فغالبية السوريين الأميركيين هم من أصحاب الكفاءات العلمية والأطباء والمهندسين ورجال الأعمال الذين انهمكوا في تطوير خبراتهم في اختصاصاتهم، ولم يكن لديهم أي تفكير في الانشغال بالشأن العام.
لكن الثورة السورية وتحولاتها انعكست على ما يجري لا في الولايات المتحدة وحدها، وإنما في أوروبا أيضاً، وبرزت بدايات هذا الانعطاف نحو التأثير في تنظيم الحضور الجماعي للجاليات وعقد المؤتمرات المعارضة غير الرسمية، للمضي بالتوازي مع نشاط مؤسسات المعارضة السورية في البعيد، في إسطنبول، أو حيث تتواجد منصات معارضة في البلاد العربية.
وقدمت الأفواج الأولى من المهاجرين السوريين الجدد الاتين حديثاً إلى أميركا، مثلهم مثل مواطنيهم الذين ارتحلوا إلى أوروبا وغيرها، هؤلاء، مع أنهم أيضاً من المنشغلين بالمسألة السورية ومن العاملين بجهد مخلص وكبير على تطوير أدواتهم إلا أنهم لا يمتلكون خبرات كافية للعمل في حقل “اللوبيينغ” والتأثير في صناع القرار.
جلب هؤلاء معهم تصوّراتهم المسبقة عن العلاقة ما بين المواطن والسلطة التي عرفوها في سورية إلى البلاد الجديدة، تلك العلاقة التي كانت ترى أنه من المحرّم على المواطن العادي الاقتراب من مراكز القرار، وأنه وبمجرد أن يظهر في صورة فوتوغرافية مع أحد المسؤولين فإنه بذلك يكون قد حقق فتحاً عظيماً، ومضت السنوات الأولى لوجودهم في الغرب على هذا النحو، يتصورون أنهم بمجرد التواجد في البرلمانات والكونغرس ووزارات الخارجية فهم بذلك يخدمون القضية التي ينادون بها في السوشال ميديا وفي البيانات السياسية الصادرة عنهم. لكن هذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أنهم تمكنوا بالفعل من فتح باب التأثير والذي لا يمكن أن يحصل من دون تحويل الضغط إلى قوانين يطرحها المشرّعون يفرضونها على الإدارة بعد تصديقها وتحويلهاً إلى محرّكات حتمية للقرار السياسي، تضبطه وتوجهه نحو البوصلة التي تخدم قضية ما أو مسألة ما.
المنظمة الأولى التي عملت عكس هذا الاتجاه، كانت منظمة فريق الطوارئ السوري SETF، ليس لأنها أكثر نزاهة أو أكثر حماسة وإخلاصاً للقضية السورية، بل لأن تأسيسها تم بإشراف أمناء من أصحاب الخبرات الطويلة في العمل الدبلوماسي والسياسي والحقوقي، من أمثال السفير ستيفن راب المحامي الأمريكي وسفير الولايات المتحدة السابق المتجول لقضايا جرائم الحرب في مكتب محكمة العدل الجنائية الدولية، وجيري آدامز وستيفن نيلسن الممثل الخاص الدنماركي السابق إلى الملف السوري وآخرين، وهؤلاء يدركون ضرورة توفير معطيات أساسية لا مفر من تواجدها كي تقول إنك تمارس الضغط السياسي والتأثير في مراكز صنع القرار.
تم تشكيل فرقة العمل الطارئة السورية بوقت مبكّر في آذار عام 2011 للرد على الدكتاتورية وحلفائها الذين يشنون حربًا على المدنيين الأبرياء، وقد اختارت مقرها الرئيسي في واشنطن العاصمة.
تطلب الوصول إلى “قانون قيصر” خمسة أعوام من العمل الدؤوب، بدأ من نقطة أساسية رعتها ونفذتها منظمة SETF شخصياً، وكانت إحضار الشاهد “قيصر” إلى الولايات المتحدة وإلى مجلس النواب والكونغرس والذي سوف يعتبر الورقة الرابحة بيد صنّاع القانون والمشرعين الداعمين له. وهو أمرٌ يوثّقه ظهوره إلى جانب معاذ مصطفى الرئيس التنفيذي لفريق الطوارئ السوري SETF (الذي قدم ويعيش في الولايات المتحدة من سنّ الرابعة من العمر) في جلسة رسمية لمجلس النواب عن الشؤون الخارجية في واشنطن 31 يوليو/تموز 2014. وقد قدّم “قيصر” بين يدي المشرعين الأميركيين 55 ألف صورة لـ 11 ألف سجين قتلوا تحت التعذيب سرّبها بنفسه حين انشق عن النظام.
ظهر معاذ مصطفى في برنامج “60 دقيقة” واسع الانتشار، وقال إنه تلقى آلاف الصور لمدنيين تعرضوا للتعذيب حتى الموت على يد نظام الاسد، زوّده بها مصورٌ عسكريّ اتخذ لنفسه اسماً مستعاراً هو “قيصر” وهي عبارة عن أكثر من 50 ألف صورة لرجالٍ ونساءٍ وأطفال تعرضوا للتعذيب والقتل علي يد قوات النظام وجيشه, وقام بمشاركتها ليراها العالم، وأكّد أنه يقوم الآن بجمع الشهود والأدلة لمحاسبة نظام الاسد على جرائم الحرب المزعومة. بيّن مصطفى آنذاك أنّه وبمجرد تلقّيه الصور بدأ بالبحث بجنونٍ عن أفراد الأسر الذين قال إنهم احتجزوا في فرع المخابرات الجوية التابع للنظام، وأضاف “لقد كان شعوراً فظيعاً، شعورٌ بالبرد فقط، ففي كلّ مرة أفكر فيها بتلك الصور أشعر بذلك من جديد، ولكن في الوقت نفسه يتملكني شعورٌ غامرٌ بالمسؤولية تجاه أولئك الضحايا” وعرض معاذ مصطفى في يوليو من عام 2014، الصور المرعبة للعالم في عرضٍ تقديميٍّ أمام لجنة الشؤون الخارجية الأميركية، وجاء حينها الشاهد قيصر متخفياً بسترة “باتاغونيا” زرقاء ونظاراتٍ سوداء وقبعة، حينها طبع مصطفى نسخاً كبيرةً من الصور وعرضها الاثنان في أركان غرفة مجلس النواب، كما قام مصطفى بترجمة كل ما قاله قيصر خلال الجلسة.
عن تلك الجلسة يقول مصطفى “أتذكر ذلك اليوم بينما كنت أترجم لقيصر، كان أعضاء الكونغرس يجلسون في صمت مذهولين، يستمعون إلى شهادة من شأنها أن تهزّ الجبال، ينظرون حولهم إلى صورٍ ليست من عام 1945 أو عام 1994 في رواندا ولكن مما كان يحدث هذه الأيام”.
وذكر مصطفى في ذلك اللقاء الهام الذي تابعه الملايين، أنه يعمل مع منظمته على جمع وتقديم المزيد من الأدلة للمحاكمات في المستقبل ويقول “عملنا لتوثيق جرائم الحرب في سوريا سيستمر، وعملنا لمساعدة الأفراد والأبطال مثل قيصر وآخرين لن يتوقف، وطالما قيصر والشعب السوري صامدون فسوف تسود العدالة”، وأضاف معلومة مهمة من شأنها أن تفسّر طبيعة العمل الاحترافي في الطريق إلى ما سيعرف باسم “قانون قيصر” حين قال إن فرقة الطوارئ السورية SETF أنشأت صندوقاً للضحايا من أجل “القياصرة” المحتملين الآخرين لتشجيعهم على التقدّم وتلقي الدعم في منظمته للإدلاء بشهاداتهم ضدّ جرائم رأس النظام وحكومته. وهو ما حصل مع حفاري القبور وسائق البلدوزر الذين رعتهم SETF وأشرفت على كل شؤون حياتهم واتصالاتهم ورتبت لهم الاجتماعات مع الجهات الدولية.
إحضار شاهد من هذا النوع، ورعاية حضوره والتكفّل بكل ما يلزم لتسهيل تقديمه شهادته، مهمة حرفية لا تشبه بأي شكل من الأشكال الاستعراض الإنشائي والشعارات والهتافات الحماسية، هي عملٌ تخصصي وجهد وتمويل ودقة في التنفيذ للوصول إلى الهدف. وكان الطريق طويلاً وشاقاً حتى الوصول إلى تاريخ منتصف ديسمبر 2019 حين أقرَّ مجلسُ الشيوخ “قانون قيصر” وأصبحَ جُزءًا من قانون إقرار الدفاع الوطني الأميركي للسنة المالية 2020 وفقًا لتقرير مجلس النواب 116-333 بعد توقيع الرئيس السابق دونالد ترامب عليه.
خلال تلك السنوات الخمس، تشكلت “جوقات”، لا تلتزم بضوابط سياسية مبدئية، بل اعتقدت أن التحشيد والتنظيم كافيان لخلق “اللوبي الموعود”، ما لبثت أن اعتبرت نفسها ممثلة للجالية السورية الأميركية، بعضها بسبب اغترابه الطويل وعمله على جمع التبرعات للعمل الخيري لسنوات عديدة، وبعضها بفعل انشغاله في مؤسسات المعارضة السورية، أو في أحزاب وجماعات تقليدية مثل الإخوان المسلمين أو غيرهم، وكل ذلك يمكن اعتباره جزءاً من التمرّن على العمل الجماعي، بما قد يعتريه من أخطاء وهنات وعثرات بعضها شديد السذاجة وبعضها يعكس ذهنية بسيطة يحاول أصحابها الظهور من خلالها كفاتحين ومنقذين للقضية السورية.
لكن يبقى الفارق كبيراً بين العمل الاحترافي وذاك الذي يبني على إيهام النفس والآخرين بقدرات لا تتجاوز التقاط الصور وإطلاق التصريحات لوسائل الإعلام التي لا تمتلك معرفة كافية بما يدور في الساحة، والزعم بأن هذا القانون كان بفضل جهود هذا المنظمة أو ذلك التحالف أو غيره.
نسب كثيرون إلى أنفسهم الفضل في دعم قانون قيصر، والدفع به والتشجيع على تبنيه، محاولين احتكار النجاح لصالحهم ونبذ أي جهود علمية تم تقديمها من العازفين على آلة “القانون” بما فيه من صعوبات تقنية وتعقيدات تتطلب بمهارات عالية للتحكم بـ 78 وتر فيه، لا من هواة الضرب على “الدربكة” ذات الصوت الصاخب والتي لا تحتاج أكثر من الخبط والضجيج للترويج لأصحابها وادعاء البطولات والإنجازات، وهو ما سنشهده مجدّداً عشيّة إقرار مجلس النواب الأميركي لقانون “مناهضة التطبيع مع نظام الأسد”.