أسامة آغي
هناك من يقرأ الحدث السياسي من عنوانه المعلن، وهذا أمرٌ غير صائب، فثمة أسبابٌ ودوافعٌ وأهدافٌ تقف خلف اتخاذ القرارات الهامة لدى الحكومات والأنظمة السياسية المختلفة، وكمثالٍ قابلٍ للإضاءة سنأخذ الدعوة التركية لنظام الأسد لأجل إعادة العلاقات بين الدولتين إلى سابق عهدها قبل الثورة السورية في آذار 2011.
في البدء لا يجوز الخوض بندية القدرات التي تمتلكها الحكومة التركية مع قدرات نظام الأسد، سواء الاقتصادية أم السياسية أم العسكرية أم على صعيد البنية الداخلية، فهناك فجوة هائلة بين قدراتهما لصالح تركيا، ولا حاجة لذكر الأمر رقمياً في ذلك لأنه مكشوف كإحصائيات موثقة.
إذاً، لماذا كانت تركيا تعمل على جرّ نظام الأسد لإعادة العلاقات بينهما؟ ولماذا دعت روسيا النظام الأسدي وتركيا لإعادة هذه العلاقات وعملت من أجل ذلك ديبلوماسياً بينهما؟
لنناقش الأمر من الزاوية التركية بشفافية كما قرأناه. فتركيا لديها اعتبارات أساسية تشكّل محور سياساتها حيال الصراع في سوريا وعليها، فهي أولاً تهتمّ بأمنها القومي، هذا الأمن مهددٌ بفعل نشاط تنظيم تصنّفه تركيا كما يصنّفه عددٌ من البلدان بأنه تنظيم إرهابي ألا وهو تنظيم PKK.
التنظيم المذكور يمارس سياسة الإرهاب عبر مهاجمة المصالح التركية، وباعتباره غير قادرٍ على ممارسة هذا النشاط في تركيا، وهو تنظيم كردي متطرف ينحدر في غالبية قياداته وميليشياته من المكون الكردي التركي، لجأ إلى جبال قنديل العراقية القريبة من الحدود التركية والإيرانية للقيام بعملياته التخريبية، ثم هبط إلى شمال شرقي سوريا وانخرط بإدارة تنظيم كردي متطرف في سورية يُدعى PYD.
تركيا تعرف حقّ المعرفة أن خطر هذا التنظيم كبير انطلاقاً من الحدود السورية التركية التي تمتد طولاً لأكثر من ثمانمائة كم، وهذا أمرٌ ليس جديداً، فاتفاقية أضنة بين نظام الأسد الأب والدولة التركية نصّ على حقّ مطاردة هؤلاء الإرهابيين داخل الحدود السورية بعمق خمسة كيلو مترات.
الخطر الأمني على تركيا ازداد بعد أن انحسرت سلطة النظام الأسدي عن لعب دورها الأمني في منطقة الجزيرة السورية (محافظتا الحسكة والرقة)، وهذا دافعٌ أول للتعاون بين تركيا ونظام أسد، فكلاهما متضررٌ من نمو قدرات هذا التنظيم الإرهابي المسمى زوراً “قوات سوريا الديمقراطية”، ولذلك تريد تركيا من نظام أسد أن يعدّل باتفاقية أضنة تنفيذاً لاتفاق سابق مع كلٍ من الروس وموافقة أمريكية على إبعاد هذه الميليشيات نحو عمق ثلاثين كيلو متراً داخل الحدود السورية.
التنظيم المذكور لعب دوراً وظيفياً في سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في هذا البلد، والتي تريد احتواء تركيا عسكرياً واقتصادياُ وسياسياً بما لا يتعارض مع استراتيجياتها في المنطقة وآسيا، هذا الدور يتمثّل باستنزاف تركيا أمنياً وعسكرياً واقتصادياً، أي منعها من التطور الشامل لتغدو إحدى دول مجموعة العشر الأوائل اقتصادياً على مستوى العالم، سيما وأن ناتجها المحلي تجاوزت قيمته السنوية تريليون ومائة وخمسون مليار دولار أمريكي.
الأمر الثاني والمهم أيضاً، أنَّ من منع نظام الأسد من الانخراط بعملية تقارب وفتح علاقات مع تركيا هي إيران، فهذا النظام الذي دعم نظام أسد مالياً وعسكرياً واقتصادياً وسياسياً وأمنيّاً لا يريد أن ينحسر دوره في هذا البلد، فكلما تقدّم نمو العلاقات التركية السورية في كل المجالات سيتراجع بالضرورة وجود إيران عسكرياً وأمنيّاً وسياسياً في سورية، سيما أنها تريد إلحاق هذا البلد بسياساتها عبر الهيمنة على مفاصل هذه الدولة السورية، ولذلك تعمل على إرسال رسائل له عبر تصفيتها لكير من المسؤولين الموالين للأسد، وآخرهم مستشارة رأس النظام لونا الشبل.
إن حكومة حزب العدالة والتنمية التركي تدرك أن إعادة العلاقات مع نظام الأسد ستسحب ورقة تراهن عليها معارضتها الداخلية، هذه المعارضة ليس لديها برنامجاً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً واجتماعياً منافساً لبرنامج تحالف الجمهور، ولذا تصعّد بورقة اللاجئين وبسياسة الحكومة حيال الملف السوري برمته، ولعلنا ندرك أن بديل ذلك قد يتمثّل بتطوير المناطق التي توجد بها القوات التركية كمناطق خفض تصعيد، ونقصد بالتطوير وضع برنامج حوكمة واستقرار اقتصادي وأمني وسياسي في الشمال السوري.
تركيا تريد من إعادة العلاقات مع نظام أسد تشغيل الطريق الدولي M4 والطريق الدولي M5، فهذا الطريقان إذا ما تمّ فتحهما أمام حركة التجارة سيخدم الاقتصاد التركي واقتصاد المناطق التي يمرّ بها، ولكن هذين الطريقين لا يمكن فتحهما بدون ترتيبات سياسية تذهب نحو حلٍ سياسي شامل في سورية وفق القرارات الدولية وفي مقدمتها القرار 2254.
الحكومة التركية تدرك أن الاقتصاد هو جوهر السياسة، وبالتالي لا يمكن تشغيل الطريقين المذكورين دون خارطة حلٍ سياسي له جدول زمني واضح، وله ضمانات دولية.
أما ما يتعلق برفض نظام أسد لإعادة العلاقات بينه وبين تركيا، فإن هذا الأمر لا يتعلق بقدرته على اتخاذ مثل هكذا قرار، فوجوده مرتبط حتى اللحظة بإرادة حليفيه الإيراني والروسي، هذان الحليفان بدأت مصالحهما المشتركة بتثبيت النظام الأسدي في حكم البلاد بالتغيّر، سيما أن الروس يستنزفون في أوكرانيا من قبل الغرب، وبالتالي سينعكس ذلك على دورهم في سورية ضعفاً، وهذا يعني مكاسب كبرى للإيرانيين في هذا البلد يرفضها الروس، ويعتبرونها خطراً على مستقبل علاقاتهم في هذه المناطق.
يتضح الموقف الروسي من خلال ضغطهم على الأسد بضرورة تطبيع علاقاته مع تركيا دون شروط، ويتضح أيضاً من خلال رفضهم لعقد لقاء في بغداد بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان ورأس النظام السوري.
هذه الحالة لا يمكن فهمها على أنها تخلٍ تركي عن قوى الثورة السورية، فليس منطقياً في السياسة ومصالحها أن يتخلى القوي “تركيا” للضعيف “نظام الأسد” عن مصالحه ونفوذه مقابل لا شيء، سيما وأن الأتراك يعرفون أن من يدير دفة نظام الأسد هم الإيرانيون إلى درجة كبيرة، وأن موافقة الأسد على إعادة العلاقات مع تركيا قد تدفعهم لتصفيته جسدياً كما صفّوا من قبله عدداً من المسؤولين غير المحسوبين على سياستهم.
إن تصحيح المعادلة سياسياً بالقضية السورية نعتقد أنه يتطلب إعادة إنتاج لعمل مؤسسات الثورة السورية بما يتفق على الأقل بثبات موقفها من تنفيذ القرار 2254. وأنه يتطلب أن تعيد تركيا ترتيب وضع الشمال السوري بما يخدم تنفيذ القرار المذكور، عبر إيلاء هذه المناطق أهمية الدفع باستقرارها الحقيقي أمنياً وعسكرياً من خلال جيش وطني حقيقي وليس جيشاً مكوناً من مجموع فصائل فحسب، فالاستقرار الأمني لا يمكن إنجازه بدون حوكمة وإدارة حقيقية لهذه المناطق، وهذا يتطلب أن يتشارك الجميع في بناء وتطوير واستقرار هذه المناطق.
الائتلاف الوطني السوري معني أن يوسّع ليس من عدد افراده المنضوين تحت قبته، بل معنيٌ بتوسيع مشاركة البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في إدارة هذه المناطق، للوصول إلى حكومة لها ركائز شعبية تحمل برنامجها الملموس، وليس ركائز تتحمّل فشل إدارتها لهذه المناطق.
فهل ستكون هناك سياسة تركية واضحة حيال محاربة الإرهاب الذي تمثله القوى المتطرفة والعابرة للوطنية، والرافضة لتطوير المناطق الخارجة عن سيطرة نظام أسد؟
إن العمل على ذلك سيخدم استقلال سورية وشعبها، والبدء ببناء سورية الجديدة الديمقراطية، مما يخدم استراتيجياً مصالح البلدين الجارين وشعبيهما.