كانت اسرائيل خلال معظم القرن الماضي، فكرة ودولة، مشروعا غربيا، بريطانيا فرنسيا حتى الحرب العالمية الثانية ثم امريكيا منذ ذلك الوقت، بمقدار ما كانت مشروع اليهودية الصهيونية. فقد استخدمت الدول الغربية على التوالي اسرائيل وجيشها ذراعا طويلة وقوية للضغط على حكومات الدول العربية وإخضاعها لمصالحها القومية والاستراتيجية.
ويكتسي انخراط الولايات المتحدة وحلفائها اليوم بكل ثقلهم وقوتهم الى جانب اسرائيل أهمية أكبر في مناخ دولي مزعزع الاستقرار تواجه فيه سيطرة الولايات المتحدة وحلفائها، التاريخية وشبه المطلقة، على منطقة تتمتع بأهمية استراتيجية وجيوسياسية استثنائية في حسابات القوى والصراعات الدولية، تهديدات غير مسبوقة. فانهيار اسطورة الردع والقوة الضاربة الاسرائيلية في هذا الظرف الصعب الذي يواجه فيه الغرب صعود التحديات الكبيرة لا يهدد أمن الدولة الاسرائيلية وحدها وانما يزعزع احد أبرز إركان نظام الهيمنة الامريكية الغربية في الشرق الاوسط والعالم. وهذا الاجماع الذي برز في الغرب وحلفائه علىى التناول شبه المقدس لمفهوم أمن اسرائيل وضمان سطوتها وقوة ردعها تجاه دول المنطقة، النازعة الى توسيع هامش مبادرتها الاستراتيجية واستقلال قرارها الوطني، وازاء القوى الدولية الصاعدة التي تطالب بنظام دولي جديد متعدد الأقطاب، يؤكد طبيعة دور اسرائيل في تىرتيب توازنات المنطقة والحفاظ على تفوقها المطلق بوصفه احد اهم مفاتيح التدخل الدائم في الشرق الأوسط واحتكار التحكم بمصير المنطقة.
قد يساعد هذا التحليل على فهم أفضل للديناميكيات العميقة التي تحرك هذا الصراع والتحديات التي يفرضها على الاطراف المنخرطة او المتورطة فيه بالرغم منها. فبالرغم من ان هذا الصراع لا يجري الا على اضيق رقعة جغرافية سياسية في المنطقة إلا انه يعكس صراعات متعددة ومتقاطعة تهز مصير الدول والشعوب وربما تعيد رسم مستقبلها وخريطة الشرق الاوسط ذاته في العقود القادمة بما في ذلك علاقات دوله فيما بينها ومصير نظم الحكم السائدة فيه.
هذا ما يفسر العلاقات الحميمة التي تجعل الكيان الاسرائيلي ببدو في عيون الولايات المتحدة وحلفائها، اكثر من حليف قوي، بل شريكا استراتيجيا استثنائيا يحقق لواشنطن ما لا يحققه اي حليف آخر بين الدول الغربية، وأكثر قيمة استراتيجية من اي ولاية امريكية. فهو يمثل قلعة متقدمة على ارض “موعودة” من مصلحة واشنطن تعزيز قوتها فيها وتحطيم كل من يقف في وجه توسعها وتقوية شوكتها في منطقة تتنافس على النفوذ فيها والسيطرة عليها كل القوى الطامحة للعب دور قيادي في صوغ اجندة السياسة العالمية. وهذا ما جعل من السيطرة على الشرق الاوسط منذ بدء تشكل دوله الحديثة حكرا على التحالف الغربي بعد القضاء على طموحات شعوبه في انتزاع حقهم في تقرير مصيرهم فيها وفي الوقت الراهن ضد المحاولات الروسية والصينية والايرانية للنفوذ اليه ومشاركتهم في المصالح الاستراتيجية الكامنة في هذه السيطرة.
وليس هناك سوى هذا الدور الجيوستراتيجي الكبير ما أعطى لاسرائيل المكانة الاستثنائية التي تحتلها في الاستراتيجية الغربية الشرق اوسطية والعالمية ودفع العواصم الغربية، طوال العقود الماضية، الى الاستثمار الهائل في اسرائيل وتمويل بناء المستوطنات في الاراضي التي اعترفت بها العواصم الغربية ذاتها اراضي فلسطينية وليس التغاضي عنها فحسب. وهذا ما يجعل من التصريحات المتكررة عن حل الدولتين منذ ثلاثة عقود تغطية على التواطؤ الفعلي مع سياسة توسيع الاستيطان ووسيلة لذر الرماد في العيون.
فليس سوى اسرائيل قوة ضاربة وطاغية من يستطيع وهو في عين المكان ان يلوي ذراع دول المنطقة وتشتيت شمل شعوبها وإجبار حكامها على السير في الطريق المرسوم لهم والتخلي عن طموحاتهم الوطنية والعمل على خط الاستراتيجية الأمريكية والغربية. فاسرائيل الضعيفة لن تكون من دون فائدة فحسب لكن عالة على الولايات المتحدة والغرب. ففي تمرد اسرائيل على القوانين والقرارات والاعراف الدولية واستعدادها لاستباحة حقوق شعوب المنطقة وتهديدها العلني والدائم لحكامها تكمن فائدتها. من هنا ايضا حرص الغرب على التعاون الوثيق معها في كل المجالات لضمان تفوقها العسكري والأمني والتقني والعلمي وتزويدها بكل ما يقوي سطوتها في الاقليم ونفوذها في العالم. ولم يكن الرهان على اسرائيل والاستثمار الاستراتيجي المتعدد الأبعاد خاسرا. فقد كان لهذه الدولة الأداة الدور الابرز في اجهاض مشاريع النهضة والتقدم والتنمية في البلدان المحيطة وفي ترويع الشعوب العربية وتقويض صدقية دولها وتهديدها وإخضاع حكوماتها واستخدامها اداوت لتطويع هذه الشعوب وحبسها وتقييدها.
ولأن الإسرائيليين فهموا ان الولايات المتحدة والغرب يريدون منهم ان يكونوا أقوياء، وان تكون اسرائيل عصا غليظة لمعاقبة الشعوب العربية وأحبارها على التسليم بالأمر الغربي القائم طلقوا مشاريع السلام والتسويات السياسية منذ البداية، وأطلقوا العنان لاطماعهم التوسعية، وتبنى معظمهم الأفكار والمشاريع العنصرية، واصبح هدفهم تحويل اسرائيل إلى دولة قومية عنصرية صافية وترحيل الفلسطينيين او ما بقي منهم في ارض فلسطين التاريخية. بل لم يعد بعضهم يخفي حلم اسرائيل بالتوسع من الفرات إلى النيل.
لا يقلل هذا التحليل من اثر اللوبي الصهيوني ولا الصهيونية المسيحية في خلق التعاطف مع اسرائيل. كما لا ينفي وجود التعاطف مع الدولة الصهيونية نتيجة الشعور بالذنب ازاء المحرقة النازية وجرائم اللاسامية التاريخية. لكن لا هذا ولا ذاك يمكن ان يفسر هذا التماهي والتعامل مع اسرائيل بمنطق المصير المشترك واسقاط معاني الحق والقانون الاخلاقي الانساني والدولي. ولو كانت السياسات الدولية تبنى على المشاعر والوفاء للضحايا لكان من المفروض ان تتوقف الحرب في غزة منذ اشهر عديدة امام مشاهد الابادة اليومية والتدمير المنهجي لكل معالم الحضارة والمدنية التي تعرض على الشاشات يوميا. كل ما يقال في هذا المجال لا يعدو ان يكون تبريرا للتواطؤ الكامل مع الحرب الاسرائيلية وسياسات الترحيل دفاعا علن المصالح الاقتصادية والاستراتيجية الكبيرة للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة. وليس للتذكير بقوة اللوبي الاسرائيلي وبالشعور بالذنب ازاء اللاسامية سوى هدف واحد هو الهرب من المسؤولية الدامغة لواشنطن وحلفائها في خلق شروط الحرب الدائمة وتعميم العنف والتشجيع على العنصرية والقتل بالجملة، ومن ثم تبرير الحفاظ على الأمر الواقع بطريقة مواربة.
2.
من هنا، اذا كان هدف اسرائيل في هذه الحرب الدائرة اليوم القضاء على المقاومة الفلسطينية واخضاع غزة او تهجير سكانها وابادتهم السياسية (وواشنطن شريكة ايضا في هذا الهدف ولم تخف مشروع ترحيل سكان غزة لسيناء في بداية الحرب) فان إنهاء هذه الحرب لا يمكن ان يحصل ما لم تحقق الولايات المتحدة وحلفاؤها هدفين أساسيين استراتيجيين: الاول اعادة قوة الردع الاسرائيلية التي يراهن عليها التحالف الاستراتيجي الغربي للحفاظ على نفوذه الاستثنائي في عموم المنطقة، والثاني تاكيد ولاء الدول العربية وخضوعها الثابت والمتجدد للغرب واعلان استسلامها والتحاقها بالسياسات الغربية ونواته التطبيع مع اسرائيل، اي التحالف معها والعمل على الاجندة الغربية الامريكية التي تمثلها وتجسدها في سياستها الاستيطانية ذاتها. وهذا ما يفسر سياسة إدارة بايدن التي تستخدم العصا الاسرائيلية والجزرة الأمنية لإخضاع دول المنطقة لأرادتها. وهي تريد في الواقع ان تضمن مسبقا، قبل ان توقف الحرب الاسرائيلية شكلا والأمريكية فعلا، توقيع العرب ودول الخليج بشكل خاص على صك التحالف معها على بياض. وهذا ما يزال حكام الخليج او اغلبهم يخشون اثاره على شرعية حكمهم ما لم يرتبط بحد ادنى من ارضاء المطالب الشعبية العربية بحل مقبول للمسالة الفلسطينية.
السؤال من الذي سيضعف قبل الاخر ويتنازل عن مطالبه العرب ام الأمريكيين. فإذا قبل العرب بالتوقيع على بياض على صك الولاء والإلتحاق بالحلف الأمريكي الغربي خرجوا من هذه المواجهة الاقليمية الدولية الاستراتيجية الخطيرة والمعقدة مذلولين او صاغرين، محرومين من اي هامش مناورة، ومن ثم اتباع مخلدين لواشنطن وحلفائها. وهذا ما تسعى اليه واشنطن لتقطع عليهم اي فرصة للمناورة في المستقبل مع الصين او روسيا او مجموعة البريكس التي تشكل اكبر مجموعة ضاغطة في اتجاه الخروج من منظومة السيطرة الاحادية ونظام القطب الأمريكي الواحد المترنح.
في المقابل إذا استمر العرب، والخليجيون خاصة، في مقاومة الضغوط، ورفضوا التسليم بالأمر الواقع وقبول التطبيع مع الغرب واسرائيل من دون ثمن، او لقاء وعود وهمية اثبتت خواءها طوال القرن الماضي والعقود الثلاث الماضية بشكل خاص، ونجحوا في اجبار واشنطن وحلفائها على تقديم الثمن: اعتراف ومشروع جدي وواضح لاقامة دولة فلسطينية مقابل اي تطبيع وتوقيع على اتفاقات استراتيجية امنية مع الغرب، فسوف يشكل ذلك خطوة اساسية وقوية اولى على طريق تأكيد استقلال قرارهم الوطني وتوسيع هامش مبادرتهم السياسية والاستراتيجية وحقهم في اقامة علاقات ندية مع جميع الدول وصوغ سياساتهم حسب متطلبات مصالحهم ومصالح شعوبهم الوطنية.
بهذا المعنى لم تعد الحرب على غزة عموما وفي رفح الان، بعد سبعة اشهر من القتال والدمار، اسرائيلية، ولا اعتقد ان اسرائيل تجني اي عائد منها منذ أشهر، انها بالدرجة الاولى أمريكية. وواشنطن تستخدم تطرف نتنياهو، تماما كما يستخدم هو هدفها في تمديد الحرب، لشوي العواصم العربية على نار ساخنة لانتزاع استسلام حكوماتها وقادتها.
لا ينبغي ان تخدعنا المظاهر وان تعمينا المخاوف التي زرعتها فينا الهزائم والدعايات الإسرائيلية المضللة الماضية. ليست اسرائيل في المحصلة الاخيرة سوى كلب حراسة واداة يستخدمها الغرب والولايات المتحدة على راسه لترهيب الدول العربية واخضاعها لارادته وإجبارها على العمل في خدمته وتامين مصالحه. والولايات المتحدة هي وحدها التي تملك اليوم، بعد تراجع دور القوى الاستعمارية الاوروبية القديمة، مصير اسرائيل بين يديها وتحدد لها دورها وقوتها حسب ما تقتضيه شروط إخضاع الشعوب العربية وإكراهها على السير في ركابها. وهي وحدها التي تحدد شروط حروب أسرائيل مع الدول العربية والان مع غزة وفلسطين: توقيتها ووتيرتها ونوعها ومدتها وشكلها ومستوى عنفها ونوع الأسلحة المستخدمة فيها ولا يتورع احد ابرز نوابها ليندسي غراهام، بهذه المناسبة، عن تذكير العرب بان من الممكن لاسرائيل (اي لواشنطن) ان تستخدم السلاح النووي إذا اضطرت لذلك كما استخدمته الولايات المتحدة ضد اليابان في الحرب العالمية الثانية. والواقع ان اسرائيل هي بذاتها القنبلة النووية الرئيسية التي استخدمتها العواصم الغربية خلال القرن الماضي والولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لتفجير المنطقة وردع الشعوب العربيةً وترويعها وإجبارها على الخضوع والإذعان وفرض سيطرتها على احدى اهم مناطق العالم من الناحية الاستراتيجية والجيوسياسية.
ولا يغشنا تكرار الحديث الكاذب عن الحرص على تقليل عدد الضحايا المدنيين. بالعكس ان استهداف المدنيين يشكل هنا احد ابرز تكتيكات الحرب التي تهدف إلى ردع الشعوب وتهديد استقرار الحكومات وتوصل رسالة أساسية لجميع سكان المنطقة انه لا يوجد هنا في هذه الحرب وهذا الصراع حوّل اسرائيل وفي سبيل تعزيز وجودها: كلب صيد وحراسة وقاعدة للسيطرة الأمريكية الغربية، اية حدود او محرمات قانونية او اخلاقية. والحقيقة ان واشنطن وحلفاءها لم ينتظروا الهجوم الصاعق على غزة وحرب الابادة فيها كي يعلنوا أن كل شيء مباح لإسرائيل في هذه المنطقة. إنها أدينت بان تكون منطقة مستباحة منذ إعلان اسرائيل دولة عنصرية من جانب واحد بدل ان تكون دولة فلسطينية لجميع سكانها. وهذا ما اظهرته العقود القليلة الماضية من العراق الى سورية الى لبنان الى ليبيا الى اليمن قبل الضفة الغربية وغزة اليوم. وهم مصممون على الاستمرار في ذلك وسائرون على خطى ذاك الرئيس الذي اختاروه لسورية وفرضوه بالقوة المجردة تحت شعار: الاسد او نحرق البلد. اليوم نحن امام شعار مثيل: اسرائيل او نحرق المنطقة. واذا استمر التصعيد من قبل واشنطن من خلف نتنياهو وحكومته العنصرية وبالرغم من ألأجندات الشخصية والانتخابية فربما ينتشر الحريق قريبا في عموم المنطقة وفي ماورائها ايضا. هذا هو الجنون المنظم والاستراتيجي الذي قاد اليمين العنصري الأمريكي المحافظ في التسعينات وبداية القرن الحالي إلى حرق العراق وتسليمه ومن ورائه بلاد الشام بالتفاهم لقمة سائغة للميليشيات الإيرانية الطائفية والعنصرية التي دمرت الدول ومزقت الشعوب وردت المجتمعات إلى عصور الظلام البائدة.