زكي الدروبي
بعد سنوات طويلة من حروب الظل بين إيران وإسرائيل، حدث قصف متبادل بينهما بشكل مباشر خلال الأسبوعين الماضيين، فاستهدفت إيران إسرائيل بكمية كبيرة من المسيرات والصواريخ من أراضيها مباشرة، بعد أن أبلغت دولا عديدة بتفاصيل هجومها قبل 72 ساعة للتأكيد بأن فعلها عبارة عن رسالة سياسية وليس رغبة في التصعيد وردت إسرائيل بعملية في العمق الإيراني.
رسائل جيوسياسية:
ما حصل يعد تطورا كبيرا على المستوى الاستراتيجي، فقد أظهر أن لإيران القدرة على الوصول إلى أماكن حساسة واستراتيجية في العمق الإسرائيلي، دون مساعدة من أذرعها، وباستخدام أسلحة قديمة، واضطرت دول غربية كبيرة للتدخل من أجل حماية إسرائيل، أي أن إيران إن قررت الدخول في حرب مباشرة مع إسرائيل باستخدام ترسانتها الحديثة من الصواريخ والمسيرات مع ما تمتلكه أذرعها أيضا، فإنها قادرة على التسبب بأذى كبير جدا لإسرائيل، وهذا سيشكل حالة رعب كبيرة لإسرائيل. كذلك أظهر الرد الإسرائيلي تفوقها العسكري على إيران في التكنولوجيا الحديثة التي استخدمت، وقدرتها على الاختراق في القلب الإيراني، لكنها تمنعها من القيام بعملية منفردة دون موافقة أميركية مسبقة.
بنفس الوقت فإن القدرة الإيرانية على إطلاق قوة نارية كبيرة باتجاه إسرائيل ليست مطلقة، فقد تتمكن إيران وأذرعها من إطلاق أول عدة دفعات، لكنها قد تتوقف في النهاية، بسبب القدرات الجوية العالية لدى إسرائيل والدول الراعية لها، وستنطلق الطائرات والصواريخ الغربية من كل مكان في الداخل والخارج الإيراني، لتحصد منصات إطلاق الصواريخ والمسيرات ومستودعاتها، والمصانع التي تنتجها.
في السياسة والتحالفات:
سعت إيران في تخطيط ضربتها وردودها إلى تجنب إحراج الإدارة الديمقراطية في أميركا، من خلال عدم التصعيد، وإعطاء أوراق لحملة ترامب تساعده أكثر على الفوز أمام الرئيس الحالي بايدن في الانتخابات القادمة، ما يضعها في مواجهة مع إدارة أميركية متشددة تنهكها وتنهك اقتصادها، في مقابل بقاء هذه الإدارة الديمقراطية التي تراعي إيران ولا تضغط عليها كثيرا.
أكدت الضربة الإيرانية على أولوية إسرائيل في المشروع الغربي على أي مشروع آخر في منطقة الشرق الأوسط، فقد تقدمت ثلاث من أكبر الدول (أميركا وبريطانيا وفرنسا) لحماية إسرائيل من الصواريخ والمسيرات الإيرانية، وبنفس الوقت غض الغرب النظر عن المشروع الإيراني، فقد سارع الاتحاد الأوروبي لوضع عقوبات على برنامج المسيرات والصواريخ الإيرانية، لكنه رفض وضع الحرس الثوري الإيراني على قوائم الإرهاب، كما مرر مجلس النواب الأميركي مشروع قانون يوسع العقوبات ضد النفط الإيراني، لتشمل الموانئ، والسفن، ومصافي التكرير التي تعالج أو تشحن الخام الإيراني عن عمد، منتهكة العقوبات الأميركية الحالية، لكن لن يكون هناك تأثير كبير للقانون على تصدير النفط والغاز الإيراني في المدى القريب، لأن تطبيقه يبدأ بعد 180 يوما من توقيع الرئيس الأميركي عليه، بسبب خشية بايدن من ارتفاع أسعار النفط إن تم التشديد على تصدير النفط الإيراني، وتأثر حملته الانتخابية بهذا الأمر، وبالتالي لن تكون لهذه العقوبات تأثيرات حقيقية على إيران في الوقت الحالي، لكنه في نفس الوقت يضع تهريب النفط الإيراني على طاولة الرئيس القادم للولايات المتحدة الأميركية من خلال اشتراطه على الحكومة نشر تقرير غير سري خلال ستة أشهر من صدور القانون، يوضح فيه تفاصيل صادرات إيران النفطية الحقيقية.
ما حدث أرسل رسائل سياسية للمنطقة ككل، فقد استشعرت السعودية الأخطار التي تحدق بها، وبأن الضربة – وإن كانت موجهة لإسرائيل – لكن رسائلها وصلت إليهم، واعتمد بلينكن على هذه الرسائل في إعادة إحياء مشروع قديم (الناتو العربي) بنكهة جديدة “التكامل الدفاعي” وقال في زيارته السابعة للمنطقة “أنّ الولايات المتحدة ستجري محادثات في الأسابيع المقبلة مع دول المجلس الست حيال دمج الدفاع الجوي والصاروخي وتعزيز الأمن البحري”.
بدوره أكد وزير الخارجية السعودي وجود مفاوضات مع الإدارة الأميركية بشأن اتفاق أمني ثنائي معها، وقال “معظم العمل تم إنجازه بالفعل. لدينا الخطوط العريضة لما نعتقد أنه يجب أن يحدث على الجبهة الفلسطينية”، وهو يؤكد ما ذكره الصحفي الأميركي توماس فريدمان في مقاله المنشور في صحيفة نيويورك تايمز، والمعنون بـ”على إسرائيل أن تختار: رفح أو الرياض؟!، ويرى فيه أن “التطبيع مع السعودية، وقوات حفظ سلام عربية في غزة، وتحالف أمني بقيادة الولايات المتحدة ضد إيران” يعد خيارا مضادا للهجوم على رفح، لكنه “سيأتي بثمن مختلف على إسرائيل” وسيدمجها “في أوسع تحالف دفاعي أميركي عربي إسرائيلي تمتعت به الدولة اليهودية إطلاقا”.
تسعى أميركا لتشكيل تحالف من المنطقة تدمج فيه إسرائيل، وتواجه التمدد الصيني الذي يزداد في الشرق الأوسط، وفي أفريقيا على حسابها، وهذا ما نراه في المشاريع المختلفة المطروحة، كمشروع الناتو العربي الذي لم يلد للحياة، ومشروع طريق الهند الجديد، ومشروع التكامل الدفاعي، لكن وجود حكومة يمينية متطرفة في إسرائيل لن تقدم الحد الأدنى من حقوق الفلسطينيين، وتصاعد المد اليميني في إسرائيل، ورفضه لأية عملية سلام حقيقية، سيعطل كل هذه المشاريع، ويدفع لاستمرار التوتر في المنطقة، وهو الذي تعتاش عليه إيران.
تدور في الأفق أيضا مشاريع تحالفات جديدة، منها مشروع خط التنمية الخليجي العراقي باتجاه تركيا وأوروبا، ومنها ممر الشمال – الجنوب من الهند عبر البحر إلى إيران ثم روسيا.
في انعكاسات الرسائل على سوريا:
تتجاهل كل مشاريع التحالفات السياسية والاقتصادية في المنطقة سوريا، مما يعني أنه لا يوجد لدى الدول الكبرى والإقليمية حلول للقضية السورية في المدى المنظور، وبالتالي إدخالها في طرق التجارة الدولية والتنمية، وإن نفذت – رغم كل المعوقات – هذه المشاريع، فسيفقد الشعب السوري في المستقبل مصادر دخل أساسية تتمثل في رسوم الترانزيت على خطوط التجارة ونقل الطاقة، والتي تعتبر أساسية في الصراعات الجيوسياسية على المنطقة، حتى بين الحلفاء أنفسهم، فمثلا تسعى روسيا جاهدة لعرقلة أي نقل للطاقة الإيرانية إلى الساحل السوري، كي لا يكون منافسا للغاز والنفط الروسي.
يتوقع بشدة ألا يحدث تشديد العقوبات الأميركية على إيران فارقا كبيرا، وسيكون لديها فترة طويلة لتصدر نفطها، والحصول على أموال لتمويل مليشياتها ونفوذها في المنطقة، وستستمر في الصراع على موارد المنطقة، كما في استهداف حقل غاز كورمور في شمال العراق، لمنعه من استثمار موارده في التنمية المحلية، حيث تبلغ فاتورة استيراد العراق للغاز من الخارج 6 مليارات دولار سنويا، وبالتالي بقاؤه بحاجة إلى الغاز الإيراني لتوليد الكهرباء، ودورانه في مدارها، وفي المقابل سيخلق تحالفات محلية وإقليمية للتصدي لهذا التمدد، ويمكن للثورة السورية أن تجد لها موطئ قدم في التحالفات الجارية بالعراق لوضع حد للهيمنة الإيرانية، والاستفادة من العلميات الاستخباراتية الإسرائيلية في قلب إيران، والتي تضعف هذا النظام، وتصعب عليه حماية مساحة دولته الكبيرة المترامية الأطراف، لإيجاد تحالفات مع المعارضين، والناقمين على النظام الإيراني بسبب طبيعته الاستبدادية، والذين أصبحوا غالبية كبيرة كما رأينا في الانتخابات الإيرانية الأخيرة، لبناء نضال مشترك ضد هذا النظام.
ستستمر حروب الظل بين الطرفين الإيراني والإسرائيلي، واقترب عدد عناصر حزب الله الذين قضوا في استهدافات إسرائيلية من 300 مقاتل بين قيادي وعسكري، وتم تدمير البنية التحتية بشكل كبير بالجنوب اللبناني، فإن كان حزب الله يتذرع بأن عناصر فرقة الرضوان هم من سكان تلك القرى والمدن في الجنوب، ولا يمكن إبعاد هؤلاء السكان عن منازلهم، إذا فلتدمر تلك المساكن وفق سياسة الأرض المحروقة – حسب الرؤية الإسرائيلية – كي لا يتمكنون من العودة إليها ثانية، وتحظى إسرائيل بالمنطقة الآمنة التي تبحث عنها في الجنوب اللبناني.
إن كل ما يحدث هو استنزاف للقدرات الإيرانية ومليشياتها، وهو بالتأكيد لصالح الثورة السورية، لكننا بالتأكيد لن نقبض ثمار هذا الضعف، إن استمرت قوى الثورة بهذا التشتت والتشرذم، وإن استمر الشمال السوري بهذا الشكل من الفوضى والفساد.
تلفزيون سوريا