تحت عنوان “الجيش التركي يستعد أيضاً”، كتب الباحث التركي سمير صالحة الأستاذ في القانون الدولي والعلاقات الدولية مقالاً تحدث فيه عن التحولات في العلاقة بين المؤسسات المدنية والعسكرية في تركيا ووضع المؤسسة العسكرية بعد محاولة الانقلاب.
وتحدث صالحة في المقال الذي نشره في موقع تلفزيون سوريا، عن القرارت التي اتخذها مجلس الشورى العسكري الأعلى في تركيا، والرسائل الأخيرة التي وجهها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وفيما يلي نص المقال:
من تابع قرارات مجلس الشورى العسكري الأعلى في تركيا ورسائل الرئيس رجب طيب أردوغان وهو يوقع دفتر الشرف خلال زيارة تقليدية لضريح أتاتورك، يتعرف أكثر إلى حجم التحولات في العلاقة بين المؤسسات المدنية والعسكرية في تركيا أولا، ووضع المؤسسة العسكرية اليوم بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 تموز 2016 ثانيا.
صدق مجلس الشورى العسكري التركي قبل أيام على جملة من قرارات الترفيع والتعيين في صفوف القوات المسلحة التركية، كان أبرزها تعيين متين غوراك رئيسا جديدا لهيئة الأركان العامة، خلفا للجنرال يشار غولر، الذي تولى وزارة الدفاع في الحكومة التركية الجديدة.
مجلس الشورى التركي يستعيد عافيته بعد “طعنة الخيانة” التي تعرضت لها البلاد قبل 7 أعوام، ويرقي 32 جنرالا وأدميرالا و63 عقيدا إلى رتب أعلى. وبذلك يرتفع عدد الجنرالات والأدميرالات، الذي يبلغ حاليا 266 إلى 286 اعتبارا من 30 آب 2023.
دوّن أردوغان في دفتر كبار الزوار وهو أمام ضريح مؤسس الجمهورية التركية الحديثة، على رأس قيادات سياسية وعسكرية عليا يقول “إن أعظم مصدر لقوتنا وثقتنا في هذا النضال هو قواتنا المسلحة التركية قرة عين أمتنا من خلال حسها العالي بالواجب والردع والقدرات الفائقة”. يشير أردوغان إلى نقطة ثانية وهو يواصل الكتابة “على الرغم من الصراعات والتوترات في محيطها المباشر، لا تزال تركيا مركز جذب في منطقتها، ونحن نبذل جهودا مكثفة في كل مجال لبناء قرن تركيا الحديث الذي وعدنا به أمتنا لنخلّف وراءنا دولة أكثر ازدهارا ورفعة مفعمة بالسلام للأجيال القادمة”. أردوغان يتحدث عن التحول في بنية ومهام ودور المؤسسة العسكرية التركية. لكنه يضع نقطة على السطر لحالة عاشتها تركيا لعقود طويلة.
يرد الإعلامي التركي أحمد هاقان على بعض الأصوات التي كانت تقول إنه في حال فوز حزب العدالة في الانتخابات فلن تستطيع النساء مغادرة منازلها بعد ذلك. فشل هؤلاء في تقدير مركز قوة حزب العدالة الحقيقية والتي تقوم على 3 عناصر يعتبر العنصر النسائي أحد أهم ركائزها. قبل أسابيع وفي عهد حزب العدالة يتم تعيين سيدة على رأس المصرف المركزي التركي. واليوم قرار آخر بترقية العقيد غوكشان فرات إلى منصب عميد بحري لتكون أول سيدة تركية تصل إلى هذا المنصب.
تحركت قيادات عسكرية في الجيش التركي 4 مرات للانقلاب على السلطة السياسية في البلاد. كانت تحمل معها دساتير جديدة بمقاييس تناسب كل فريق عسكري يصل إلى الحكم. إلى جانب ذلك كان هناك العديد من رسائل التلويح بانقلابات في الفترة الواقعة بين أعوام 2003 و2014، وبيانات تحذيرية للسلطة السياسية الواجب أن تأخذ بعين الاعتبار موقع ودور المؤسسة العسكرية في لعبة التوازنات الداخلية الحساسة وعدم تجاهله. آخر المحاولات الانقلابية قبل 7 أعوام أريد لها أن تكون مثل الانقلابات السابقة باسم المؤسسة العسكرية ونيابة عنها لإزاحة حزب العدالة والتنمية عن الحكم. لكن الرد جاء سريعا من قبل السلطات السياسية والعسكرية نفسها وتحرك الشارع التركي بعفوية لمواجهة مؤامرة جماعة غولن وإعلان التمسك بما وصل إليه المسار الديمقراطي في البلاد من مكتسبات.
اكتسبت التجربة التركية في المسار الديمقراطي مع حزب العدالة والتنمية أهمية كبيرة على مستوى الداخل والخارج. تجربة يطلقها قبل عقدين حزب محافظ يرفع شعار التعددية ويتبنى أسس الدولة التركية الحديثة، لكنه يقرر الدخول في مغامرة التغيير الجذري في عمل العديد من المؤسسات الدستورية، وعلى رأسها المؤسسة العسكرية التي خاض بعض ضباطها غمار الانقلابات العسكرية أو التلويح بها بهدف الهيمنة على بقية المؤسسات الدستورية تحت غطاء الدفاع عن أسس الدولة وعلمانيتها.
استخلصت المؤسسة العسكرية التركية الكثير من الدروس والعبر على ضوء التجارب والمحن التي تعرضت لها في العقود الأخيرة. الدروس لم تكن على مستوى القيادات السياسية والحزبية في البلاد وحدها. بل كانت داخل الثكنات ومراكز القيادة العسكرية والمدارس الحربية التركية والتي دعمت عملية مواصل التحديث والتغيير التي بدأها حزب العدالة في بنية المؤسسة العسكرية.
التحول الأول والأهم جاء بعد المحاولة الانقلابية من خلال تعديل بنية مجلس الأمن القومي أهم مراكز القرار الاستراتيجي في تركيا، ليصبح 9 مدنيين مقابل 5 من العسكر بعد أن كان عدد المدنيين 4 عند تأسيس المجلس. كما وضعت التعديلات الدستورية تصرفات الجيش المختلفة تحت رقابة ومحاسبة البرلمان والأجهزة الدستورية. في هذه الأثناء نجحت المؤسسة العسكرية، التي حصلت على دعم سياسي واسع من قبل حزب العدالة والتنمية وزيادة ميزانية الجيش في تعزيز قدراتها الدفاعية رغم أكثر من عقبة بطابع داخلي وخارجي. فأصبحت خلال سنوات من أكثر المؤسسات العسكرية في المنطقة سرعة في التطور. فتعززت الصناعات العسكرية حيث تم إنتاج حوامات وسفن وفرقاطات ودبابات ومدافع مع انطلاق مشروع إنتاج طائرة حربية محلية الصنع. وزادت نسبة اعتماد الجيش على الصناعات المحلية التي كانت لا تتجاوز العشرين بالمئة فوصلت اليوم إلى نحو 75 بالمئة.
خلال أعوام فقط تمكنت المؤسسة العسكرية التركية من تنفيذ أكثر من عملية استراتيجية داخل تركيا وخارجها بأهداف متعددة لتأكيد جاهزيتها من النواحي القتالية والتكنولوجيا العالية المستوى في التصنيع الحربي وتسهيل عقد عشرات صفقات بيع الأسلحة التركية وعلى رأسها المسيرات التركية الحديثة. وهي خطوات ساهمت بانتقال تركيا إلى صفوف أكبر 10 دول في العالم في هذا المجال.
استردت المؤسسة العسكرية عافيتها خلال أعوام فقط وربما خطوة الدعم الأولى والمؤثرة جاءت من قبل الرئيس أردوغان الذي حصر المحاولة الانقلابية بأقلية من الخونة داخل المؤسسة العسكرية. القوات المسلحة التركية النظيفة لا يمكنها أن تغلق الجسور وتقطع الطرق وتحاصر مقر قيادة الأركان وتقصف البرلمان رمز الديمقراطية وتستهدف مقار لجهاز الاستخبارات العامة وتوقف العمل في المطارات وتحتل المباني الحكومية.
التنسيق الأخير الذي رأيناه في عمل المؤسسات المدنية والعسكرية في الداخل والخارج، هو الذي فتح الطريق أمام السلطة السياسية لتجلس أمام طاولة التوازنات الإقليمية في التعامل مع ملفات أمنية وسياسية واقتصادية عديدة. وهو ما سهل الإجابة على الكثير من التساؤلات التي كانت تطرح حول من صاحب المصلحة في زرع بذور التباعد بين المؤسستين؟ وما الذي حصلت عليه تركيا بعد إنهاء هذه الحالة وإعلان التمسك بمسار التحول الديمقراطي الذي أوصل الأمور إلى ما هي عليه اليوم؟