د.باسل معراوي-نينار برس
تَوقّفت عملياً الحروب الدامية العثمانية – الصفوية في عام 1639 وتَمّ رسم خط الحدود بين الدولتين منذ ذلك الوقت ولم يتمّ اختراقه لحد الآن، وسادت الحالة بينهما بدلاً من الصراع العسكري المباشر إلى الحرب عبر الوكلاء أو الصراع البارد وفي أحسن الأحوال التنافس الدائم، و رغم تَغيّر طبيعة الأنظمة السياسية التي تَحكُم الأمتين الفارسية والتركية، حيث بقيت المصالح الإستراتيجية لكلا الأمتين متناقضة، وقد شَكّل التنافس المذهبي أحد أسباب الصراع، ويرى كثيرون أنّ فرض الصفويين المذهب الشيعي الجعفري بالقوة في إيران هو لإعطاء الصراع مع الأتراك القداسة الدينية والقدرة على التحشيد، وبذلك يكون التنافس المذهبي هو أداة أو وسيلة للصراع وليس سبباً له أو بغاية نشر المذهب.
وفي العصور الحديثة سادت نظرية أنّ الدولتان متوسطتا القوة في الإقليم لا تتحالفان ولا تتحاربان بل ما يَحكُم علاقتهما الصراع والتنافس الدائم، ودليل ذلك بقاء خط الحدود المرسوم بينهما ثابتاً منذ القرن السابع عشر لحدّ الآن وسبقت الدولتان اللدودتان الأوربيين بعقد من الزمن حينما توصلوا وقتها لمعاهدة ويست فاليا التي أنهت الحروب الدينية في أوربا ورَسّخت الحدود الوطنية بين الدول.
وإن كان صحيحاً أنّ المذهب الشيعي قد أمّن نوعاً من الوحدة والتماسك والاستقرار بين الشعوب الإيرانية، إلا أنّ الآذريين الأتراك بقي هواهم وولاءهم لقوميتهم أقوى من البعد الطائفي وهو ما تجسّد عملياً في حربي ناغورني كاراباخ الأخيرتين حيث كانت تركيا السنية حليفاً رئيسياً لأذربيجان الشيعية التركية، في مواجهة أرمينيا الأرثوذكسية التي دعمتها إيران الشيعية ضد أذربيجان الشيعية أيضاً.
حمل البلدان تاريخهما المُثقل بالحروب الدموية والصراعات الدائمة والمستمرة إلى سوريا بعد انطلاق ثورتها، حيث يملك كل منهما مشروعاً مُختلفاً ومتناقضاً مع مشروع الآخر ولا يمكن التعايش بينهما.
مشروع الهلال الشيعي الذي لا يُخفيه نظام الملالي منذ وصول الخميني للسلطة حيث وضع نصاً دستورياً يَحضّ على تصدير (الثورة الإسلامية) إلى الجوار، وقد تمكّن الملالي من السيطرة على العراق بعد الغزو الأمريكي له، وكان ذراع إنشاء الهلال الشيعي الملحق بإيران هو من أولويات الحرس الثوري عسكرياً عبر فيلق القدس الذي كان يقوده قاسم سليماني، أما ثقافياً وتبشيرياً فكان الغزو الثقافي قد سبق الأفعال العسكرية بسنوات لتأمين الحاضنة المحلية للهلال الشيعي الإقليمي.
وكانت تتبلور فكرة عن مشروع للعثمانية الجديدة، يستند إلى حزب العدالة والتنمية التركي ومؤسسه الرئيس أردوغان، الذي خرج من عباءة العلمانية الأتاتوركية الصلبة وقدم خطاباً دينياً حداثياً معتدلاً، مشفوعاً بطفرة اقتصادية هائلة رافقت وصولة للسلطة، بحيث يكون نموذجاً إسلامياً منشوداً للأمة السنية كلها، ومعادياً بطبيعته لكل أشكال التطرف الجهادي الذي كان العدو الإستراتيجي الأول للولايات المتحدة حيث لم يكن قد مَرّ إلا عقد من الزمن على هجمات 11 أيلول 2001، وقدّر المخططون الأمريكيون أنّ الحل الأمني مع تلك الجماعات لا يُجدي نفعاً، لذلك بناء النموذج الإسلامي الحداثي سينهي أسباب وبذور التطرف، وإن حدث الصراع سيكونون بمنأى عنه لأنه سيكون صراعاً داخل الدول الإسلامية بين أنصار الحداثة وأنصار الجمود والتطرف.
وكان سقوط الطغاة العرب الثلاثة في مصر وليبيا وتونس بدعم مباشر أو غير مباشر أو رضى (على الأقلّ) من الولايات المتحدة ومعسكرها الغربي دليلاً على القبول بالمشروع الوليد حيث يلبي أيضاً حاجات إستراتيجية للغرب، والغرب غير العقائدي أيديولوجيته هي مصالحه لذلك بدا وكأنه مشروع هلال سني مركزه تركيا وقائده الرئيس أردوغان، والذي بدأت الجموع الإسلامية المتعطشة لظهور قائد رمز سني تُصبغ عليه ألقاباً شتى كخليفة المسلمين، وحفيد السلاطين محمد الفاتح وسليم الأول، ولا بأس عند الغرب من قيادة تركية للمسلمين السنة إذ إنّ تركيا هي دولة بنموذج غربي في الثقافة والاقتصاد، وعسكرياً هي من المؤسسين لحلف الناتو وتُشكّل قوة رئيسية فيه، وتركيا هي المكافئ النوعي تاريخياً للحدّ من النفوذ الإيراني في المنطقة، كما أنه لابأس عند الغرب من رعاية الصراع أو التنافس وضبطه بين المشروعين (الشيعي والعثماني) ولا مانع أيضاً أن تكون الدولة العبرية هي بيضة القبان في التوازن المنشود.
كما أنّ قيادة تركيا للمشروع والتي كانت من أوائل الدول التي اعترفت بإسرائيل وتقيم معها علاقات طبيعية تصل للجوانب العسكرية أحياناً، يمكن أن تُؤدّي لإحلال السلام في المنطقة وإنهاء حقبة الصراع العربي السني – الإسرائيلي.
وبعد الثورة الخمينية تحوّلت إيران إلى مشروع خلافة شيعية إسلامية قائمة على الأرض وليست مُتخيّلة، بمعنى إمبراطورية عابرة للحدود الوطنية ولا تعترف بالسيادة الوطنية للدول وتعتبر نفسها المسؤولة عن تصدير الثورة أولاً وحماية الأقليات الشيعية في العالم وبتدخل سافر في شؤون الدول، وانتقلت إيران من الدولة الوطنية الشاهنشاهية ذات التوجه القومي المُغلّف بنكهة شيعية والتي تسعى لتأمين مصالحها، انتقلت الدولة الإيرانية الجديدة إلى نشر مشروع أيديولوجي يَهدف إلى تغيير الهوية الوطنية واستبدالها بهوية شيعية عالمية مرجعيتها في قم وطهران ضاربةً عرض الحائط بكل المصالح الاقتصادية للدول الطبيعية، وبدأت بنفسها حيث فككت مؤسسات الدولة وأنشأت اللادولة الموازية وسعت إلى نشر التجربة عبر تأسيس الميليشيات في الدول التي تضم أقليات شيعية.
يبدو ان تَحوّلاً أمريكياً إستراتيجياً طرأ على الحاجة للعثمانية الجديدة في الشرق الأوسط، فقد توقف المشروع الوليد في البوابة السورية وكان واضحاً عدم الرغبة الأمريكية في إسقاط الأسد المنهار حينها، أيضاً جرى العبث في التجربة الليبية وتحولها لحرب أهلية بعدم السماح للحكومة الموالية لأنقرة ببسط سيطرتها على كامل الدولة الليبية، وكان انقلاب الرئيس السيسي على حكم الإخوان الشرعي والمنتخب من الشعب بعد سنة من عمره، وشيطنة التجربة الإخوانية وحظر الجماعة وزَجّ الآلاف من أفرادها في السجون واتهامها بالإرهاب هو الدليل الواضح على انقلاب في الموقف الأمريكي وبالطبع هذا ألقى بظلاله على الصراع في سوريا ومآلاته، وبدأ يظهر التقهقر العثماني الجديد في سوريا والذي كان تحصيلاً حاصلاً لما يدور في الإقليم إلى أن نزلت روسيا الأرثوذوكسية لمساندة إيران الشيعية والتي كانت على وشك الهزيمة في سوريا لعدم سقوط أحد أذرع الجبهة الحسينية على يد العرب والترك من الجبهة اليزيدية.
ويُمكن أن يُعزى سرّ الانقلاب الأمريكي بعدم ضمان بقاء حالة الصراع أو التنافس بين الهلال الشيعي والسني والوصول إلى تفاهم ما تُمليه مصالح إستراتيجية متقاطعة للطرفين يتجلى باقتلاع الدولة اليهودية (والتي هي رأس رمح المشروع الغربي في المنطقة) وهذا احتمال وارد الحدوث بغضّ النظر عن شرعيته ونسبته في الحدوث أو النجاح.
بعد التدخل الروسي العسكري المباشر في الصراع وتلاشي الآمال من إمكانية نجاح مشروع العثمانية الجديدة (وبالطبع هو مشروع ملموس على الأرض لكنه غير مُعلن ويختلف بالشكل والأداء عن الهلال الشيعي) وظهور دور فاعل للقوى العربية المناهضة للدور التركي الجديد وبعضهم أطلق عليه بالثورات المضادة.
ظهر واضحاً توتر العلاقات التركية كثيراً مع مصر والسعودية وأبو ظبي، وبدأت أنقرة مشوار إدارة هزيمة مشروعها الإقليمي وحربها في سوريا وظهر التقهقر التركي والسوري الثوري المتحالف معها أنه سيزداد مع التوحّش الروسي غير المسبوق، وردة الفعل الانتقامية الإيرانية الشرسة، وكل ذلك يجري على مرأى ومسمع بل ورضى أيضاً من الحلفاء في الناتو.
حصلت الاستدارة التركية باتجاه الروس لتخفيف الخسائر وإنقاذ ما يمكن إنقاذه وبدأت الأحلام التركية تتواضع في الملف السوري من إسقاط نظام الأسد إلى الحفاظ على أمن الحدود الجنوبية لها حيث وبذريعة الحرب المقدسة على د ا ع ش كانت دويلة كردية جنينية يكسوها اللحم تدريجياً وتتغذى بحليب رعاة البقر وهو تحد فرض على أنقرة اتباع سياسات الدفاع بدل الهجوم وهو مازال سارياً الى حد ما إلى الآن، حيث تتلخص المطالب التركية في سوريا ببناء قاعدة مجتمعية صديقة في سوريا من العرب السنة لإجهاض أحلام المشروع الأوجلاني وقيام حكم صديق (أو غير عدو في دمشق بعد زوال الأسد).
يُمكن أن يكون الموقف التركي عقلاني قياساً للمعادلة بين الإمكانيات والطموح والانتظار أو الترقّب لِتغيّر جوهري سيحدث في ميزان القوى، بدأت ملامحه بالارتسام في سوريا والإقليم، يتجلى بانكفاء القوة الروسية بفعل مغامرات طائشة للقيصر، وتحول التخادم الغربي مع مشروع ولاية الفقيه إلى حرب حقيقية تدور رحاها منذ 7 أكتوبر 2023، سينتج عنها انكفاء آخر في القوة الإيرانية، وبروز رغبة امريكية في استغلال القوة الفائضة التركية في ملء الفراغ الإستراتيجي الناجم عن التحوّلات الجديدة باعتبار أن تركيا دولة غربية ناتاوية ولا يوجد غيرها لفعل ذلك بالتعاون مع العرب إذا تمكّن عامودهم الإستراتيجي السعودي بالتحول من قطب مالي إلى قطب سياسي أو إستراتيجي.
لم يتفق الأتراك والإيرانيون يوماً على أيّ مصالح إستراتيجية وكل التكتيكات من أستانة لغيرها ماهي إلا فواصل عابرة لمنع الاحتكاك المباشر، ولم يتفقوا في سوريا الثورة ولن يتفقوا في سوريا الجديدة على اي شيء إلى أن تُشرق الشمس من الغرب.