أحمد مظهر سعدو-العربي الجديد
يُنتج وجود السلطات الأمنية الحديدية القمعية، بالضرورة، حالة من الغليان والامتعاض، سرعان ما تتحوّل إلى موقف رفض جواني داخلي كامن. وفي اللحظة التي تجد فيها حيوات الناس أنها وصلت نحو وضعٍ لم يعد القبول به، ينفجر ذلك كله بقوة، عبر تعبيرات في الشارع والانتفاض، ثم يتجاوز كل المعوقات والموانع مهما كانت.
الشعب السوري في محافظة إدلب، وهو الذي عاش سابقاً تحت سيطرة الدولة الأمنية الأسدية، والخارج عليها منذ عام 2011، يوم جرى كسر الحاجز النفسي لهيمنة هذه السلطات الأمنية، في جمهورية الخوف، قادر اليوم على أن يعبّر عن رفضه أي سلطة مهما كانت قوية، ضمن متغيّرات دراماتيكية لم يعد بالإمكان القبول بها، وهو ما حصل مع السوريين المتجمعين بالملايين في الشمال السوري، من خلال مظاهرات عمّت معظم البلدات والأرياف في إدلب وما حولها، فقد راكمت سياسة القمع وكم الأفواه الكثير مما اعتمل داخل الناس، وأنتجت أجواء من عدم الرضى، آثرت مناهضة أحوال منع الحريات، وخنق الكلمة، ولجم القلم، ومصادرة معظم الحرّيات العامة التي ضحى من أجلها السوريون، بما ينوفُ عن مليون شهيد، منذ 13 سنة ونيف.
يضاف إلى ذلك كله واقع شظف العيش، وقلة فرص العمل، والعوز الاجتماعي، وعدم وضوح آفاق جديدة للمستقبل، فضلاً عن تسلّط أدوات العسكريتاريا على مفاصل الحياة الاجتماعية والاقتصادية للناس، وهو الذي ساهم في مزيدٍ من الاحتقان، والرفض. ومن ثم، بدأ ذلك كله يتمظهر عبر تظاهرات شعبية عمّت بلدات سورية كثيرة، خارج سيطرة النظام، وبالتزامن مع استمرار حالة الحراك وزخم الانتفاض الشعبي الكبير الذي جاوز الثمانية أشهر في جبل العرب والسويداء جنوباً.
يتحرّك التظاهر الشعبي للناس في إدلب تحت شعارات عدة، منها إنهاء هيمنة التنظيمات العسكرية، التي انشغلت عن مواجهة نظام بشّار الأسد، وهو كما يفترض همّها الأساسي بمسائل أخرى، طاولت حرّيات الناس، والانقضاض على أمنهم وأمانهم اليومي، وزجّ كثيرين منهم في المعتقلات والسجون، بدون حقّ، وخارج إطار القانون. ما زالت هذه التحرّكات الشعبية السلمية محصورة في نطاقها السلمي، رغم القمع والاعتقال لبعض المشاركين فيها، حيث نالهم من قوى الأمر الواقع ما نالهم، لكن التظاهر كما يبدو ما زال مستمرّاً ضمن حراكه الذي لم يعد يخيفه شيء. ولكن لا بد من القول أيضاً إن هذه الهبّة الشعبية، التي انطلقت من جوانية المعاناة والتهميش، وفي سياق مسارات متوقفة، وانسداد للآفاق، وضمن حالة الاستنقاع الكبرى للمسألة السورية، التي يعيشها الناس في إدلب وسواها، لم تعد وحدها ما ينغّص صفو البشر في “الشارع الإدلبي”، إن صحّ التعبير، حيث استغلت هذا الحراك بعض (أو بقايا) الفصائل العسكرية المعارضة، التي سبق أن جرى الإجهاز عليها، وإنهاء وجودها العسكري في إدلب، لمصلحة توسعة وجود فصيل واحد وهيمنته هو هيئة تحرير الشام. ومن ثم تحرّكت بقايا هذه الفصائل المتفرّقة، والخارجة من السجون والمعتقلات، لكن التحرّك مدنيّاً هذه المرّة، وبالتأكيد يضاف إليها بعض عناصر حزب التحرير الإسلامي القديم/ الجديد، وصولاً إلى غايات وأهداف أخرى قد لا تتقاطع، بالضرورة، مع متطلّبات الحراك الشعبي المدني الكبير، والصادق فيما يعمل من أجله.
إلى أين يمكن أن تذهب هذه التظاهرات؟ وهل يمكن أن تتحوّل إلى انتفاضة شعبية عارمة، بعد أن دعا منظّموها إلى اعتصامات كبرى وعصيان مدني؟ ثم ما هي احتمالات أن يتغيّر المسار ويحدث الانزياح الأكبر نحو العسكرة، وبعدها تفتح أبواب جهنم، كما يقال، أو أن يستغل ذلك كله النظام الذي يتربص بالشمال السوري، منذ فترة، وهو الذي انتهك مئات المرّات اتفاق وتفاهم 5 مارس 2020 الذي رعته تركيا وروسيا الخاص بإدلب، وماذا عن الوضع الدولي والإقليمي هل أضحت الظروف مواتية لتغيرات ما في خريطة الواقع المؤقت في إدلب؟. هذه الأسئلة وغيرها جدّية وموضوعية، وتضعنا جميعاً أمام احتمالات وطنية سورية جمة، وتغيرات محتملة قد تطاول وقائع كثيرة.
يبدو أن المظاهرات في تطور نحو التصعيد، ولن يكون بالإمكان لجمها أو إنهاؤها، حتى لو استعملت هيئة تحرير الشام كل أدواتها الأمنية والعسكرية، وكل قوتها العسكرية وتخويفها للناس بالسجون، والضرب بيد من حديد، أو توجيه التّهم بالخيانة، وخدمة الأجندات الخارجية، كما درجت العادة لدى كل الأنظمة والسلطات، في مواجهة التحرّكات الشعبية، لكن المنتفضين ما برحوا يصرون على المتابعة والتصعيد. ولكن احتمالات أن تتحول المظاهرات إلى انتفاضة شعبية عارمة، وعصيان مدني شامل يقتلع جذور الفصائل العسكرية، أو يعيد إنتاجها على أسس جديدة، ما زال غير ممكن لما لدى هيئة تحرير الشام من قوات عسكرية مدربة، وقرار مركزي سياسي وأمني وعسكري قوي وأوحد، لا يحتمل المماطلة ولا التسويف، ويمسك بتلابيب الوضع في إدلب بقبضة حديدية وصبغة دينية، لا تقبل الرأي الآخر، ولا المهادنة مع من يتحرّك ضدها.
وأن تتحوّل هذه الانتفاضة إلى العسكرة من الاحتمالات الممكنة، فيما لو جرى تأمين الدعم الخارجي أو الإقليمي لبقايا الفصائل المشار إليها، والتي تشارك في التظاهرات، وهو ما لم يتمظهر، وليس هناك من مؤشّرات تبين ذلك، أو تنبئ بإمكانيته. مع خطورة ذلك كما أسلفنا على الواقع الشعبي في الشمال، حيث يكفيهم ما جرى من قصف ومقتلة أسدية، ما انفكّت تمارس حقدها وقوتها على حساب المدنيين في إدلب.
وإذا كان نظام الأسد يتربّص بإدلب والشمال السوري، فهو يرصد ويقرأ التغيرات التي يمكن أن تحدُث نتيجة تداعيات ما بعد العدوان الصهيوني على قطاع غزّة، وتوقعات انعكاس ذلك على وضع النظام السوري، والوجود الإيراني في الجغرافيا السورية، وكذلك القوات الروسية، وهو ما لم يعط مؤشّراته وضوحاً بعد، بالتزامن مع رضى أميركي واضح، على صمت الإدارة الأميركية على النظام السوري، ومكافأته بعدم التصديق من (جو بايدن) على قانون منع التطبيع مع بشّار الأسد.
وما زال الوضع الدولي والإقليمي غير راض عن تغيّرات وانزياحات كبرى، أو تغيير في الخريطة والتموضعات في إدلب والشمال، وما زال الوجود التركي في إدلب والشمال قوياً، برضى أميركي وروسي أيضاً، ومن ثم لا قرار إقليمياً أو دولياً بإنهاء وجود “حكومة الإنقاذ” في إدلب أو ترتيب وضع آخر عسكري وأمني في المحافظة، رغم ما قيل عن فكرة إدماج حكومتي الإنقاذ والمؤقتة في أتون حكومة واحدة، برعاية تركية، وموافقة أميركية، لكن ذلك لا يبدو أنه أصبح قاب قوسين أو أدنى من التطبيق العملي.
من هنا، سوف تستمرّ تظاهرات إدلب، وقد تزداد اطّراداً من دون أن يؤثر ذلك موضوعيّاً على حالة السلطة الأمنية المطبقة على البلاد والعباد، في هذه المحافظة، ومن دون أن تتحوّل الأمور إلى مواجهات عسكرية كبرى.