قليلة هي الصدف في عالم السياسة؛ و حتى عندما تقع، يتمُّ توظيفها لتخدم خطة أو استراتيجية القوى الفاعلة في منطقة هامة لعالمنا كالشرق الأدنى. تتفاوت درجات “مأزوميات” الأطراف المنخرطة في صراع هذا الشرق و عليه؛ و لكن يبقى مِحرَق الاهتمام للقوى الأعظم في هذا الصراع في مكان، وحق الانسان في حياة حرة كريمة في مكان آخر.
لم يقع حَدَثُ الكلية الحربية في حمص صدفة؛ و ما كان إلا تعبيراً عن مأزومية أسدية – إيرانية، (و أقول ترجيحاً)، إيرانية صرفة. ففي البحث عن الفاعل، لا يحتاج المرء إلى كثير من العبقرية ليزيح تلك الاتهامات التي توجهت “للارهاب” في الشمال السوري، و التي دفع الشمال مدنيًا ثمنها قبل أن يجفَّ دم ضحايا الكلية الحربية. فالمتهَمون لا يملكون الأدوات بدايةً، والتنفيذ بيدهم يستحيل لوجستياً، وفوق هذا، ما من إيجابية واحدة لفعل كهذا، بل كارثة موصّفة على الفاعل، أيٍ كان.
أما التفكير في نظام الأسد وإيران كفاعل، فيبدو في ظاهره مستحيلا؛ إلا أن استذكار السؤال الجوهري لكل جريمة: “مَن المستفيد؟”، يجعل الفاعل واضحاً. إن استفادة الفريقين (الظاهرية قبل انكشاف الحقائق- إذا اما كُُشِفَت) لا حدود لها. قبل هذا، لا بد نذكر أن تقاريراً استخباراتية روسية قد تلمّست و حذّرت من وقوع عمل إجرامي. فإذا لم يكن هناك أخذُ احتياطات أسدية – إيرانية بخصوص تلك التقارير؛ أليس هذا تحدياً واضحاً لروسيا؟! أليس هذا رداً على استبعاد ايران من اللقاء “الروسي- التركي- الأسدي”؟! أليس الحدث لحرف و إزاحة للأنظار عن الحراك المحيّر و المحرج للأسد و ايران في الجنوب السوري؟!
بعد إعلان بشار الأسد عن “انتصاره في حربه على الشعب السوري /غير المنسجم/” الذي عارضه؛ هل كان زلة لسان أو صدفة أن يعلن في مقابلته مع التلفزيون الصيني، قبل عشرة أيام، بأن الحرب في سوريا لم تنتهِ، وخاصة حربه على “الإرهاب” ؟! وكيف يمكن أن تُستَأنف تلك الحرب والجبهات خامدة، و حَراك السويداء مُحرِج جداً في سلميته؟! ألا يذكّر ما حدث الأسبوع الماضي في حمص بحدث تفجير “خلية الأزمة”، التي كانت تبحث في حل سلمي، حيث تدخّل سليماني وحرسه الثوري الإيراني عندها، و قرروا ضرورة مواجهة الحراك السوري بالحديد والنار؛ مما استلزم إزالة خلية الأزمة ؟
ربما رأى الأسد أنه في إعادة فتح ملف الحرب، و تركيزه في المقابلة مع التلفزيون الصيني بأن “الحرب لم تنته” هو الحل السحري الذي اعتقد بأنه يخرجه من مأزوميته الأقسى في هذه السنوات: انهيار اقتصادي، حراك السويداء، تململ الساحل و مناطق أخرى، فشل إعادة تكريره، محكمة “لاهاي”. لم يدرك الأسد ضمن معمعة الاستنفار الذهني هذه أن إيران لا ترى فيه إلا أداةً، بل تفكر بالنطاق الأوسع لمشروعها ومأزوميته و ما يواجهه من تحديات. فبعد حدث حمص، وللتغطية عليه أيضاً، كان تحريك حماس؛ ليأخذ صدى عالمياً أوسع ، وليملأ اسم إيران الدنيا.
خلال 72 ساعة، حدثُ غزة وتفرعاته من حماس و ايران ومقاومتها وعراقها ولبنانها وإسرائيل وأمريكا واوربا، نالت تغطية إعلامية وحراكاً واستنفاراً سياسياً وعسكرياً أكثر مما نالته المسألة السورية – رغم كوارثها – باثنين وسبعين شهرا. غاب الحديث عن كل مأزوميات نظام الأسد وإيران الداخلية والخارجية، ولكن حَضَرَ بقوة ما ستؤول إليه الأمور.
هذا العالم يشهد الآن حرباً شرق أوسطية جديدة؛ ولا بد أن يكون لها نتائج. والمفارقة ستكون عقابيلها ليس على الملالي أصحاب المشروع بقدر ما تكون على أذرعهم في المنطقة؛ و الجنى السياسي الفعلي، سيكون لإسرائيل كثكنة وظيفية متقدمة للمشروع الغربي.
سيشهد شرقنا الأدنى نهاية الكذب والادعاء والأذرع، حيث لم تعد أمريكا تحتمل مشروعاً للملالي تمَّ إيجاده عام ١٩٧٩ ليكمّل المشروع الصهيوني بالسيطرة على المنطقة الأهم في العالم؛ فها هو هذا المشروع المكَمِّل، “مشروع إيران” (يفتح على حسابه). حتى أذرع هذا المشروع المكمِّل كحزب حسن الذي بدأ بابتلاع لبنان، وارتكب كل أصناف الجرائم الدموية والكبتاغونية، وكذلك المشروع الأسدي بكل ارتكاباته، التي لم يعد هناك إمكانية لاحتمالها؛ تحوّلت إلى حالات معيقة لما يُسمّى”شرق أوسط جديد” يسود فيه السلام على طريقة أمريكا سيدة العالم لعقود وعقود قادمة؛ ولا ننسى التطبيع الأكبر القادم في مشاريع 2030و 2040.
عودٌ على بدء؛ ما مِن صدف في الأمور الكبيرة؛ ربما نحن أمام تصفية حسابات، وبشكل عنيف سمّوه قديماً “حرب عالمية”. ملالي طهران شركاء بامتياز بما يجري؛ ولكن بقفازات، و للأسف نحن كعرب وقود ما يجري أو قد يجري، و لكن بدمنا ولحمنا. من هنا لا بد من الصحوة و معرفة مكمن الداء والرأس الآخر للأفعى، كي يكون التمكُّن من الأول.