صبحي حديدي
كما يبدو راهناً، لا حدود لمظاهر الانحياز الفاضح للرواية الإسرائيلية ولجيش الاحتلال الإسرائيلي لدى كبريات وسائل الإعلام الغربية المقروءة والمسموعة والمرئية على حدّ سواء؛ خاصة تلك التي تزعم عراقة في التأسيس والتقاليد والمهنية العالية (مثل الـBBC البريطانية)، والكفاءة التكنولوجية الفائقة في مختلف جوانب التغطية المباشرة أو عن بُعد (مثل الـCNN الأمريكية). وقد لا يُدهش المرء حين تتكشف له جولات متماثلة في ممارسة تلك المظاهر، إياها، وبما يشبه القصّ والنسخ واللصق؛ كلما اتصل الأمر بحروب دولة الاحتلال ضدّ قطاع غزّة وأهله.
خذوا، في المثال الأحدث عهداً، ما تسرّب عن قرار محطة وموقع الـ MSNBC إبعاد ثلاثة من أبرز مذيعيها، مهدي حسن وأيمن محيي الدين وعلي فلشي، عن سدّة إدارة الأخبار في أعقاب عملية “طوفان الأقصى”؛ لا لأيّ سبب يتصل بالكفاءة وحُسن الأداء والجماهيرية الوطيدة، بل لسبب واحد ظاهر ومشترك، مفاده أنّ الثلاثة مسلمو الديانة وعُرف كلّ منهم بطرائق متفردة في إطلاق الصوت المختلف الذي يُكتم عادة، والرأي الانشقاقي الذي يخالف السائد أو المسيّد. حسن (الهندي/ البريطاني الأصل)، هو أكثرهم ميلاً إلى السجال الفكري والنقدي والبلاغة في الحجة وطرائق الإفحام والإقناع؛ وعليّ (الكيني الأصل) منشدّ أكثر إلى مسائل الاقتصاد والأشغال والأعمال، ولكن من زوايا إنصاف الفئات الدنيا إزاء رساميل الهيمنة والتسلط؛ ومحي الدين (مصري الأصل) يظلّ أحد أمهر المراسلين على أرض المعارك والوقائع الساخنة، وبين الأشجع في طرح الأسئلة المسكوت عنها دائماً.
وللثلاثة سجلات عمل باهرة ومشرّفة في وسائل الإعلام المرئية الأمريكية والبريطانية الأكبر والأوسع انتشاراً، ولديهم بالتالي ذلك الجمهور العريض، ليس المحلي فحسب، بل الكوني أوّلاً في الواقع؛ وليس المتعدد في الاهتمامات والميول السياسية والإيديولوجية فقط، بل متنوّع الأجيال والأقوام والأجناس كذلك. ولم يكن قرار إبعادهم عن منصّة إدارة الأخبار باليسير على إدارة محطة وموقع الـ MSNBC، بالطبع، لولا أنّ الحدث يخصّ دولة الاحتلال الإسرائيلي؛ ولهذا لم يجد الناطقون باسم المحطة والموقع وسيلة التفاف على القرار، ولأنه كان فاضحاً فاقعاً، سوى اعتبار الإبعاد خطوة مؤقتة… وكأنها، بالفعل، يمكن أن تنقلب إلى اجتثاث دائم وساحق وماحق!
وخذوا، على سبيل اختصار المشهد وتبيان تكرار القديم وسيادة النمط المتماثل، نموذج محيي الدين الذي كان خلال العدوان الإسرائيلي على غزّة مطلع 2009، الوحيد الذي راسل محطات عالمية، أمريكية بصفة خاصة، من موقع الموجود على الأرض وفي الميدان؛ كما كان، أواخر العام 2012، قد غطى الغارات الإسرائيلية على القطاع؛ وامتاز سنة 2014 بأنه الشاهد البليغ المؤثر عاطفياً والمحترف مهنياً، على قصف القاذفات الإسرائيلية للأطفال الفلسطينيين الأربعة الذين كانوا يلعبون على رمال الشاطئ. فكيف كافأته محطته على ذلك التقرير الأخير، الانفرادي والاستثنائي؟ كفّ اليد عن العمل، والنقل إلى موقع آخر، ليس خارج القطاع وحده فحسب، بل خارج فلسطين كلها، أو إلى جهة ظلت مجهولة طيلة أيام. زملاؤه، وأوساط صحافية وإعلامية في أمريكا أوّلاً، وعلى نطاق عالمي، تضامنوا معه من دون إبطاء، وبصدق، وبنزاهة بدت مدهشة بالقياس إلى حساسية ملفّ غزّة، وسطوة مجموعات الضغط المؤيدة لإسرائيل. لا أحد، إلا رهط المتواطئين الشامتين، اشترى الذريعة التي ساقتها المحطة في تفسير نقل محي الدين، أي الحرص على أمنه الشخصي مع دنوّ احتمالات اجتياح برّي إسرائيلي. ولهذا راجعت إدارة المحطة قرارها، مضطرة أغلب الظنّ، فأصدرت بياناً تعلن فيه إعادة الرجل إلى غزّة، مع تنويه خاصّ بـ”مساهمته القيّمة والفريدة في حكاية موت الأطفال الفلسطينيين الأربعة”.
حكاية أخرى، غزّاوية أيضاً، وقعت قبل سنوات وتخصّ المجلة الإلكترونية MSNBC، التي اعتادت تنظيم مسابقة سنوية لأفضل الصور الفوتوغرافية، يشارك في تحكيمها القرّاء عن طريق التصويت الإلكتروني المباشر. وذات سنة كانت صورة “موت في غزة” عن استشهاد الطفل الفلسطيني محمد الدرة، قد صعدت إلى المركز السادس، فالرابع، حتى استقرّت أخيراً في المركز الأوّل بأغلبية مليون صوت. وبدا واضحاً أنها سوف تفوز بعيداً عن أية منافسة تُذكر، خصوصاً بعد أن تحوّلت إلى نوع من حرب رسائل إلكترونية بين المتعاطفين معها (ومع الانتفاضة والفلسطينيين إجمالاً)، والمناهضين لها (وللانتفاضة والفلسطينيين إجمالاً، واستطراداً). وفي الحصيلة ارتفع عدد الأصوات المؤيدة للصورة إلى ثلاثة ملايين صوت من مختلف أنحاء العالم، مقابل نحو نصف مليون عند إطلاق المسابقة. لكن “موت في غزة” لم تفز في نهاية المطاف، لأنّ الناطق باسم المجلة أعلن أنّ التحرير قرّر ببساطة إلغاء المسابقة نهائياً، وقال في بيان رسمي: “لدينا أدلة مادية على وجود تزوير في التصويت”.
ولا جديد في التذكير بأنّ الصورة هي أيقونة عصور العولمة بامتياز، وهي تظلّ ساحة حرب شرسة لا تختلف في الشدّة والضراوة، وفي الوحشية والهمجية، عن قتال القاذفات والدبابات والمدفعية في ميادين الحروب الحيّة. غير أنّ المرء يندر أن يعثر على أدلة قاطعة تثبت مقولة كهذه إذا تلفّت بعيداً عن صورة دولة الاحتلال الإسرائيلي، التي لا يجوز أن تُقذف بوردة من دون أن يُراق على جوانبها الدم!
المصدر: القدس العربي