محمود الوهب
هتف صديق لي مساء السبت الثالث عشر من نيسان قائلًا: يبدو أنَّ الأمور في المنطقة آخذة في التدحرج، فقلت قد تدحرجت وانتهى الأمر! واستدركت أقول: إلا إذا جاء الرد الإيراني الموعود خلبياً، أي فقط لاستعادة ماء الوجه الذي أراقته إسرائيل مرارًا وتكرارًا.. وكانت فعلتها الأخيرة تلك الضربة الموجعة يوم الاثنين الأول من نيسان الجاري، للقنصلية الإيرانية في دمشق، التي أودت بحياة سبعة من العسكريين الإيرانيين ومن بينهم العميد “محمد رضا زاهدي” أهم قائد في فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، بالإضافة إلى وظائفه السياسية في سورية ولبنان.. إذ قيل بأنه كان معنيًا بإيصال رسائل (أوامر) القيادة الإيرانية إلى الرئيس السوري بشار الأسد..
لم تكذِّب إيران توقعات الكثير من المتابعين، وخاصة أنها غدت محرجة أمام شعبها وأذرعها في البلاد العربية والعالم أيضاً ففعلتها وردّت، وليتها لم تفعل.. إذ قد جاء ردُّها خلّبياً، لكنه والحق يقال، أتى على شكل مهرجان للألعاب النارية، إذ أضاء برقه فضاءات الأردن والعراق وسورية، وإن كانت بعض أدواته قد سقطت فوق تلك البلاد..
في حقيقة الصراع
السؤال الذي يطرح نفسه هو ما محتوى الصراع في المنطقة؟ ولماذا أُحرجت إيران، لتقوم بذلك الرد؟! وهل إيران عدوّ لإسرائيل؟! وإذا كان كذلك، فما حقيقة ذلك العداء؟! للجواب على تلك الأسئلة لابد من قراءة بعض الحقائق التي يمليها الواقع بعناية، ويمكن إيضاح ذلك بإيجاز..
أولًا- نعم هناك عداء إيراني لإسرائيل، لكن ما أساسه؟ أهو الدين، وزعم إيران بتبنيها للقضية الفلسطينية، كما يتوهّم بعضهم في دفاعه عن إيران، وتحالفه معها؟! وأخصّ “الإسلام السياسي”، تحديدًا وعموم محور المقاومة الذي ترعاه إيران..
ما هو واضح للملأ أن تناغمًا ما، بين إيران وإسرائيل، أما جوهره ومحتواه، فهو الصراع على كسب النفوذ في المنطقة العربية، وأساس الصراع هو واقع الأنظمة العربية البائس الذي ينعكس سلباً على كامل شؤون البلاد العربية، وهو ما يسميه المثل الشعبي: “المال “الداشر” يعلِّم الناس الحرام”، أعني إنه صراع قويٌّ حول ما يحرك شهيَّة جشع الطامعين في بلاد غنية بثرواتها، وبنهم أسواقها، وبضعف دولها، وتخلّف بِنى دولها.. ومما يؤسف له، أنَّ حكام تلك البلاد قد انقسموا أمام هذين الطامِعَيْن ومَن خلفهما إلى فريقين.. فهناك عرب المقاومة أو الممانعة الذين توهموا أن إيران حليفة لهم، فوسَّعوا لها في المجال.. ذلك إذا أخذنا الأمر بنية سليمة، واستبعدنا الطائفية المقيتة التي تسري تحت جلود بعضهم.. وفي جميع الأحوال فإن ما فعله بعض العرب قادهم في النهاية إلى تخريب بلادهم، وجعلها في حال بائس من الفقر والتخلف واستشراء الفساد، وبالتالي، افتقاد القرار السيادي المستقل لبلادهم.. وهناك عرب “التطبيع” الذين استشعروا الخطر الإيراني الذي يوازي المطامع الإسرائيلية، إن لم أقل أزيد منه، لأمور ليس مجال البحث فيها الآن، فخشوا ذلك، وتلمّسوا الرحمة عند الإسرائيليين، وكان أن وقعوا في شباك محتوى كتاب شيمون بيريز “الشرق الأوسط الجديد”، ويعملون ترجمته على أرض الواقع بالشراكة مع إسرائيل.. وكأن شعوبهم عاجزة عن التنمية.!
ثانيًا- جاء الرد الإيراني، كما قلت في المقدمة، لاستعادة ماء الوجه الذي افتقدته إيران، وأراقته إسرائيلُ، إذ وضعتها في مأزق لا تحسد عليه أمام شعبها، وأمام أذرعها في المنطقة وخاصة بعد أحداث غزة، وما جرى بها من قتل وحشي، وُصِف بأنه إبادة جماعية للشعب الفلسطيني، وتدمير شامل لبنيانه فوق أرضه.. لكن إيران، تقيدت بشروط اللعب الجاري في المنطقة بين الطرفين، وتحت إشراف الولايات المتحدة الأمريكية التي حيَّدتها يوم 7 أكتوبر 2023 منذ اللحظات الأولى فقد أبلغت إيران عن موعد الضربة التي تصدَّت لها أمريكا وإنكلترا، بالإضافة إلى إسرائيل التي أخذت احتياطاتها الضرورية، فأخفت ما تحرص عليه من جنود وطائرات وآليات..
ثالثًا- إنَّ الحرص من طرفي الصراع على أن يكون الرد محدودًا، ودونما خسائر كي لا تنفجر المنطقة بردٍ إسرائيلي ثانٍ قد يقود إلى حرب في المنطقة دون استعداد دقيق لها، وربما قادت تلك الحرب إلى تفكُّكِ دولٍ بعيدًا عمَّا يسمَّى بـ “الفوضى الخلاقة” التي تسيِّرُها أمريكا خطوة، خطوة.. ففي الشرق الأوسط دول هشة كثيرة، ومنها إيران بالذات التي شهدت في العام 2022 احتجاجات في إثر مقتل الشابة مهسا أميني في أحد أفرع الشرطة يوم 16 أيلول تحت زعم أن حجابها غير تام، وبينت الأحداث ثِقْل النظام الإيراني على شعبه، إذ هو قابل للتفكك إذا ما أعطي حريته.. أو إذا ما رفعت عنه أدوات قمعه، فإيران، قابلة للتفتت كما حدث لبعض الإمبراطوريات.. فإذا كانت روسيا القيصرية قبل العام 2017 سجنًا للشعوب، فإن إيران اليوم كذلك! ربما على نطاق أضيق. لكنَّ حركات التحرر الوطني فيها نشطة على أسس قومية ومذهبية أيضاً، إذ تنام وتستيقظ على هذا الحلم.. وثمة دول أخرى فاشلة لكنَّ بُدلاءها غير جاهزين، من وجهة النظر الأمريكية، كما هو حال سورية..
رابعًا- أما الحقيقة الأوضح، فتتعلق بحروب اليوم التي ليست حروب سيف، تتطلب شجاعةً استثنائية، ونفوسًا تطلب الموت فتوهب لها الحياة! إنها التكنولوجيا الرفيعة لا في السلاح فحسب، بل في قوة الاقتصاد، وقوة الحق ووضوحه، وفي قوة الحلفاء، وهي، أولًا وأخيرًا، في اعتمادها على شعبها وتمتعه بحريته وبإنسانيته، ليلتف حول قادته ويدافع عن حقوق بلاده. فالمنطقة كلها خالية من دولة حديثة تقوم على حقوق المواطن الفرد وسيادة القانون..
خامسًا- إن تدخل أمريكا وإسرائيل في التصدي للهجمة الإيرانية مباشرة، لئلا تصاب إسرائيل بأي “أذى” يمكن أن يخلق للإسرائيليين ردود أفعال سلبية كتلك التي حدثت في بداية حرب أكتوبر عام 1973، وهذا الأمر يشير، على نحو أو آخر، إلى هشاشة الوجود الإسرائيلي.. لكنها قوية بحلفائها، وهذا ما سيشجعها على الرد، وربما يأتي ردها أقوى مما كانت تقوم به..
في نتائج الرد
أما إذا كانت الأمور بخواتيمها فما النتائج التي حققها الردُّ الإيراني؟ وهل أقنع الشعوب الإيرانية المنضوية رغمًا، تحت حكم ولاية الفقيه، بمعنى هل أدَّب إسرائيل بإلحاق الأذى بها، أو هل حقق لغزة نصرًا ما؟ أم إنه مكَّن لحكومة نتنياهو المحاصرة منذ ما قبل 7 أكتوبر، وقد شجعها على التوحُّشُ ضد الشعب الفلسطيني أكثر فأكثر.. ولا أقول إنَّ الردَّ أعاد التعاطف مع إسرائيل، بل لعلَّه، وعلى النحو الذي أتى به، أوقف تلك الاحتجاجات العالمية، أو حدَّ من زخمها. ولعلَّه خفَّف حدة الأصوات التي ارتفعت تطالب بحل القضية الفلسطينية بالعودة إلى قيام الدولتين وفق قرارات الأمم المتحدة..
أخيرًا وماذا بعد؟! لعلَّ العرب أكثر من غيرهم معنيون بقراءة هذا الصراع عميقًا، وباستخلاص عبره ونتائجه. ولعلَّ أهمها أن يكونوا فاعلين في المنطقة لا متفرجين، وهم يملكون عوامل الفاعلية كلها، ولا أعني أبدًا القوة العسكرية، على أهميتها، بل ما أشرت إليه في فقرة سابقة، وأعتقد أن مفتاح الفعل السليم يأتي من تحرير إرادة شعوبهم القادرة على البناء والإبداع، من خلال أنظمة ديمقراطية تحاكي روح العصر وثقافته وتحديث بناء دولهم.