خاص – د. معتز محمد زين
بالطبع لست مقدم برامج ولا مسؤولا عن موقع اعلامي أو قناة تلاحق الفنانين لمعرفة أخبارهم أو إجراء مقابلات معهم .. كل المسألة أنني عندما أغمض عيني يطفح عقلي وقلبي بما ترسب في أعماقه ، ثم أحاول أن أنجز في الخيال ما أعجز عن فعله أثناء اليقظة .. فأسقط أنظمة وأنشئ دولا وأخوض حروبا ، وأداوي جراح المساكين وأنصف المظلومين من المجرمين وأصحح أفكارا وأقوم مسارات ، وأجري حوارا مع بعض الشخصيات التي أثرت في داخلي سلبا أو إيجابا ..
لا أخفي أنني من المعجبين بمهارة المخرجة رشا شربتجي من خلال متابعتي لبعض المسلسلات التي أخرجتها – و إن كنت أتوقف عن المتابعة في بعض المسلسلات التي يبدو من حلقاتها الأولى أنها لا تناسب ذوقي واحساسي وثقافة المجتمع الذي أعيش فيه – .. ما يشدني في مسلسلاتها اهتمامها بالتفاصيل التي تحول المشاعر والاحاسيس إلى حركات ومشاهد فيتفاعل المتابع مع الحدث بمشاعره ووجدانه وكأنه يعيشه فعلا ..
ما شجعني أكثر على إجراء هذا الحوار الخيالي أنني لاحظت من خلال مسلسلاتها ومقابلة لها سمعتها أنها ابنة مجتمعها تقدس كيان الاسرة و تحترم قيم المجتمع وتقدر خصوصياته دون تمرد فج أو تعال مستفز على أخلاق المجتمع ودين أكثريته كعادة الكثيرمن الوجوه الفنية ..
المشهد في خيالي بدأ عندما علمت أن المخرجة رشا شربتجي قدمت لأداء العمرة فقمت بدعوتها أنا وزوجتي لزيارتنا ولبت الدعوة مشكورة .. بعد العشاء جلسنا نتحاور ونتكلم عن أجواء المدينة والوضع المعيشي في سوريا ثم تكلمنا عن الدراما السورية بشكل عام وأعمالها بشكل خاص فوجدتها فرصة مناسبة كي أوصل رسالتي إليها .. بالطبع الحديث عن الدراما وآثارها الاجتماعية والأخلاقية ودورها التثقيفي والسياسي والاجتماعي هو حديث طويل لا تتحمله جلسة قصيرة ، لذلك أردت أن أكثف الحوار وطرحت أمامها نقطتين محددتين تلفتا نظري كلما تابعت الدراما السورية الحديثة ..
المسألة الأولى تتعلق بملاحظة وجود تركيز – مقصود أو غير مقصود – من المسلسلات في الفترة الأخيرة على زرع عادات وقيم سلبية غريبة وضارة ومستهجنة لدى القسم الأكبر من مجتمعنا ، وتقديمها وكأنها مكون أصيل من عاداتنا وسلوكنا وعلاقاتنا اليومية ، منها ( شرب الخمور .. استقلال الفتيات في السكن على الطريقة الأوروبية .. علاقات بين الجنسين مفتوحة على كل الاحتمالات .. حفلات الديسكو .. البارات .. المساكنة .. علاقات أسرية نفعية .. الغدر .. الخيانة .. العنف ….الخ ) بحيث يخيل للمتابع أن هذا المشهد الذي يراه يعبر فعلا عن حقيقة مجتمعنا ، في حين يدرك من يعيش في هذا المجتمع أن هذه السلوكيات نادرة وقليلة جدا في معظم أنحاء بلدنا ومعظم شرائح المجتمع رغم تنوع ألوانه واختلاف ملامحه من منطقة لأخرى .. فما الهدف من التركيز الواضح على هذه السلوكيات التي تؤذي ذوق المشاهد وتبعده عن متابعة الدراما أو على الأقل تجعله دائما متوجسا منها ؟؟ ولماذا تصنع الدراما هذه المسافة بينها وبين المجتمع الذي يفترض أنها تمثله وتصور همومه وطموحاته وتعبر عن آلامه وآماله ؟؟ ولماذا لا نوجه العدسة نحو القيم الاجتماعية الراقية التي تجذب المشاهد وتشعره أن الدراما تمثل نبض المجتمع الحقيقي ؟؟!! ..
المسألة الثانية هي التركيز على إظهار الراقصات وبنات الهوى والزعران واللصوص والمجرمين بمظهر الانسان الشهم النبيل الذي يضحي بماله وذاته من أجل القيم في لحظة ما .. البطل في معظم تلك المسلسلات مرتبط بطريقة ما بتلك النماذج ، يقضي عمره بالسرقة والنشل والقتل والضرب والرقص والسكر والنصب والتهريب و ملاحقة الفتيات والاعتداء على الجيران ، ثم في لحظة حاسمة ينتفض وتصحو الاخلاق والقيم في نفسه فيتحول فجأة إلى مثال التضحية والبذل والشهامة والمروءة وأحيانا التقى والصلاح .. بالطبع أتفهم عرض هذه النماذج بهذه الطريقة كنوع من تحفيزها ومخاطبة الانسان الأخلاقي في داخلها وهذا جيد ومفيد وربما يعبر عن الواقع في عينة من هذه الشريحة ، لكن عتبي عليكم – وهنا النقطة الأساسية التي أريد أن أتكلم عنها – في التجاهل الغريب لشريحة مهمة جدا من المجتمع والمتوافرة بأعداد كبيرة وبحضور يملأ العين والقلب والتي عنوان حياتها الاخلاق والشهامة والمروءة والبذل والعطاء ومساعدة الآخرين والاستثناء في حياتها أن تغش أو تعتدي أو تلاحق فتاة أو تتجاوز حدودها مع الآخر ، أقصد بالطبع شريحة الشباب الملتزمين ظاهريا وسلوكيا بقيم وأخلاق الإسلام ، الطبيب الملتزم ، المدرس الملتزم ، العامل الملتزم ، القاضي الملتزم ، المحاسب الملتزم ، التاجر الملتزم ، السائق الملتزم ، الأخ الملتزم….. وهكذا .. هذه الفئة موجودة بكثرة لكنها مهملة تماما في الدراما كنماذج واقعية حية للقيم والمبادئ والأخلاق والتضحية والشهامة والتفاني بالعمل والأمانة والسعي نحو مساعدة المساكين والمحتاجين وبر الوالدين وغيرها من القيم والأخلاق التي تعتبر عنوانا لالتزامهم لا يصح بدونها .. وأنا هنا لا أتكلم عن نماذج متخيلة في واقع صعب باتت الدراما تصوره كغابة ( كما في ولاد بديعة ) ، وإنما أتكلم عن نماذج مارست دور القديسين الاطهار وسط هذه الغابة وضمن ظروفها الصعبة فنزهت ذاتها عن الانجرار إلى التوحش والقتل تحت ستار قانون الغاب السائد ..
أنا طبيب ، درست الطب في جامعة حلب ، وعملت الاختصاص في مشفى الأسد والمواساة الجامعيين في دمشق ، وأستطيع من واقع تجربتي العملية في الطب والمجتمع أن أقدم لك نماذج عملية كثيرة للدور الأخلاقي الذي تمارسه هذه الثلة من الشباب الملتزم دينيا وبالتالي أخلاقيا ، فلا دين بلا أخلاق ، ولا أخلاق بلا حركة وسلوك يشعر به ويستفيد منه ويستظل بظله من حولك من الناس ..
إليك يا ست رشا بعض هذه النماذج التي عاينتها وعشتها شخصيا ..
1 – في المناوبات الليلية مثلا كان يعرف عن بعض الأطباء إهمالهم وعدم اهتمامهم الكاف بالمرضى فيتقصد رئيس الأطباء وضع شاب ملتزم مع الطبيب المهمل في المناوبة بحيث يحمل الطبيب الملتزم القسم الأكبر من العمل ويسد الثغرات التي تنشأ عن لا مبالاة الطبيب الآخر .. ذلك أن الكل يدرك وجوب الرعاية والعناية وتحمل المسؤولية لدى الطبيب الملتزم استنادا لمرجعيته الدينية والأخلاقية التي تشكل بنية الوعي والتصور والسلوك لديه .
2 – راجعتني شخصيا في عيادة مشفى المواساة راهبة – تلبس اللباس الرسمي الديني للأخوة المسيحيين – كبيرة السن بحاجة إلى اجراء أشعة ، سألتها : هل معك أحد يا خالة ، قالت لا أنا لوحدي جئت من ريف حماه .. لم أكن أستطيع أن أترك العيادة لكثرة المرضى أمامها ، وواضح أنه من الصعب عليها الذهاب لقسم الأشعة مع أنها تمشي على قدميها وليست بحاجة لكرسي متحرك ، كلمت زميلا لي في الاختصاص يجلس في غرفة الأطباء فجاء ورافقها إلى قسم الاشعة حتى أجرى لها الاشعة اللازمة واعادها لعيادتي ثم غادر ، بعد معاينة الاشعة وكتابة الوصفة قالت لي وانا الشاب الملتحي : هل تسمح لي يا بني أن أصلي لك ، قلت لها بالطبع مع الامتنان ، قامت بالصلاة لي ومباركتي بطريقتها وغادرت وهي تدعو لي ولصديقي …
3 – زميل لي كان يداوم في قسم القلبية في مشفى الأسد ، وكان لديه بالقسم مريض من الطائفة العلوية كبير بالسن ، بحاجة إلى مجموعة استقصاءات من ضمنها ايكو القلب ، وكان بالقسم ايكو واحد وهناك عدد محدد يوميا لهذا الاجراء ، يحتاج الأمر إلى حجز دور والانتظار حتى يحين الدور ، والمريض أنهى كل اجراءاته ولم يبق له إلا ايكو القلب ، همس المريض في أذن صديقي الملتزم الملتحي : دكتور أنا لست مدعوما ، وتعبت من المشفى ، ودوري بعد حوالي 5 أيام ، عندي عائلة ، أتوسم الخير فيك وأرى حسن تعاملك مع جميع المرضى ، رجاء حاول أن تقدم لي الدور .. ذهب صديقي إلى الأستاذ الذي يجري الايكو وكلمه مع الرجاء أن يضيف عدد المرضى اليوم واحدا من أجل انهاء معاناة هذا المريض ( هذا الاجراء نقوم به عادة إذا كان المريض من أسرتنا أو أصدقائنا المقربين ) ، وافق الأستاذ ، وتم اجراء الايكو بنفس اليوم ، وبعد الظهر تم تخريج المريض .. كنا جلوسا في غرفة الأطباء عندما قدم المريض المحترم ومعه ابنه الشاب وابنته الشابة – وهما جامعيان – لكي يشكروا صديقي على مساعدة والدهم ، تكلموا بكلمات لطيفة حركت الدمع في أعين الأطباء وعرفنا من خلال هذا المشهد القصة بعد مغادرة المريض من صديقنا الملتزم …
4 – معظم هذه المجموعة – أقصد الشباب الملتزم ذكورا وإناثا – كانت تحرم على نفسها استخدام أدوية المشفى الحكومي أو المستلزمات الطبية ( إبر .. شاش .. سيرومات .. ضمادات …..الخ ) استخداما شخصيا أو مأجورا خارج المشفى ، في حين معظم الكوادر العاملة في المشفى من أطباء وممرضات وعمال نظافة وإداريين يأخذون ما يحتاجونه للاستخدام الشخصي في البيت لهم ولعائلتهم ، أو للبيع والاستخدام المأجور في عياداتهم الخاصة خارج المشفى ، الطبيب الملتزم لا يستحل أن يأخذ حقنة أو سيروم أو لفة شاش خارج المشفى لأنه يعتبرها سرقة من المال العام …
عرضت أمامك بعض النماذج وفي ذهني الكثير منها – عشتها ولم أسمع بها – ولولا خشية الإملال لذكرت العديد من تلك النماذج السلوكية ، ويمكن لأي انسان أن يستحضر من محيطه الاجتماعي مثل هذه النماذج التي تساعد المساكين وتعتني بالكبار وتحترم خصوصيات الناس وترفض الوصول بالطرق غير المشروعة وتبر أخواتها ووالديها وتحسن لجيرانها وتؤدي عملها بأمانة وهكذا .. والسؤال المهم : لماذا لا نرى في الدراما السورية مثل هذه النماذج كأبطال للقيم والأخلاق والتعايش والتعالي على الحدود الطائفية والتعامل بقيم إنسانية مستمدة من معينها الحقيقي ؟؟ لماذا يصور الشاب المسلم الملتحي غالبا إما متعصبا أو متطرفا أو إرهابيا أو شديد القسوة مع نساء بيته أو معقد نفسيا أو جاهلا أو فاشلا أو مفصولا عن واقعه ؟؟
إن تجاهل الدراما المزمن لهذه الشريحة والتي تشكل صمام أمان لمجتمعاتها – في الماضي والحاضر – من خلال العمق الأخلاقي للدين الذي تتخذه هذه الفئة مرجعية لها تتحرك وفقا لبوصلته الأخلاقية الإنسانية الراقية ، إن تجاهل هذه الشريحة المهمة أحدث فجوة كبيرة بين الدراما والمجتمع ، بحيث بات الكثير من الناس يشاهدون الدراما فقط للتسلية مع تطوير آلية في داخلهم تجعلهم بعيدين في سلوكياتهم وخطابهم وتعاملاتهم مع ما يعرض فيها حتى بات من الشائع استخدام مصطلح ( حكي مسلسلات ) .. أي كلام أو سلوك لا يمت لنا بصلة نتفرج عليه أحيانا للمتعة ونحذر أولادنا من تفاصيله ومن الرسائل التي يحاول ايصالها للمجتمع والعادات التي يحاول أن يرسخها فيه ..
قليلة هي الدراما التي تعمل على ردم هذه الفجوة عبر الاقتراب بالدراما من أخلاق المجتمع وقيمه الحقيقية وسلوكياته التي تمثل غالبية الناس في هذه المجتمع والتركيز على أبطاله الحقيقيين وقيمه الراسخة العميقة ، وليس التركيز المستمر على النادر من السلوكيات والشاذ من التصرفات وتقديمها وكأنها الممثل الحقيقي لهذا المجتمع .. وهنا لا أستطيع إلا أن أتذكر وأترحم على المخرج المميز حاتم علي والذي استطاع – بالتعاون مع الأستاذ الكاتب وليد سيف – ردم هذه الفجوة واشباع رغبة ونهم شريحة كبيرة من مجتمعنا لمشاهدة فن راق هادف وحوارات عميقة ممتعة ومفيدة تنسجم مع تطلعات ورغبات المجتمع و عرض نماذج تاريخية أو معاصرة تمثل الشريحة الأكبر من مجتمعنا وتفصح عن حقيقة فئة مهمة من شبابنا الملتزم الذين فهموا الدين أخلاقا تملأ القلوب وقيما تضبط الحركة وعبادات تحرك الجوارح فتشحن القلوب بمزيد من الأخلاق والقيم التي تشكل صمام أمان المجتمع ..
أتمنى عليك يا ست رشا أن تبحثي عن كاتب من وزن الأستاذ وليد سيف ، وتوجهي عدسة الكاميرا التي تبدعين في تحريكها نحو شريحة الشباب الملتزم بطريقة موضوعية وصادقة لعلنا نرى في السنوات المقبلة أعمالا نشكرك عليها في الدنيا وتشفع لك في الآخرة ..
هذه الرسالة موجهة – بطبيعة الحال – إلى جميع الكتاب والمخرجين والعاملين في الحقل الدرامي الذين ينتمون في وجدانهم إلى مجتمعهم وقيمه وأخلاقه ، والذين يعتزون بدينهم وتاريخهم ، والذين يؤمنون أن الفن رسالة طالما استخدم في خدمة الأخلاق والإنسانية وتماهى مع تطلعات المجتمع الذي خرجوا منه وعملوا من اجله ..