تلجأ الولايات المتحدة لأسلوب العقوبات الاقتصادية والمالية باعتبارها (مع حلفائها) هي من أسّست النظام المالي الدولي بعد الحرب العالمية الثانية وتُمسك بِكلّ مؤسساته وقنواته ومُقدّراته حتى قبل سقوط الإتحاد السوفييتي بفعل الصدأ الأيديولوجي والاهتراء الإداري كان هناك دور لابأس به للعقوبات الغربية في تعميق أثر العوامل الداخلية لتسريع الانهيار للقطب العالمي رغم امتلاكه لأضخم الترسانات العسكرية وسيطرته على نصف القارة الأوربية والعديد من الدول في مختلف القارات ولم يَتمكّن السوفييت قديماً ولا الروس والصينيون مؤخراً من ابتكار نظام مالي منافس يُقلّل من هيمنة الولايات المتحدة في السيطرة المالية على العالم ويَسحَب من يدها ورقة العقوبات التي تُستخدم لأجندات سياسية أمريكية مَحضة ولو حملت عناوين إنسانية أحياناً تحت ذرائع انتهاك حقوق الإنسان أو جرائم حرب أو إبادة يقوم بها بعض الأنظمة، لن تنطلِ على أحد تلك المزاعم الأمريكية فهدف العقوبات هو تحقيق مصالح أمريكية صرفة.
ما أريد قوله ألا يستهين أحد بفعّالية العقوبات الأمريكية ويستشهد بكوبا أو العراق أو إيران الخمينية أو غيرهم، حيث لا تُجدِ نفعاً عمليات التحايل والتهريب على تلك العقوبات لأنّ ذلك لا يُقيم نهضة حقيقية وازنة أو يؤسُس لتنمية مستدامة، ولم نشهد دولة نهضت في ظل اقتصاد أسود يعتمد على التحايل لتحقيق تنمية حقيقية بل ممكن أن نشهد كوريا شمالية وإيران بل وفنزويلا، وتكون أنظمة مارقة كما تُسميها واشنطن، وغالباً ما يلجأ الطغاة لكبت الأنين والتبجّح بعدم فعالية العقوبات بل النسب لأنفسهم الانتصار عليها.
إنّ الغاية من العقوبات الأمريكية الضغط على الدول لإجبارها على تغيير مواقف معينة أو/وإرسال الرسالة للحلفاء بأنّ تلك الدولة وضعت على اللوائح الحمراء وتُفضّل واشنطن عدم التعاطي معها كدولة طبيعية.
وتستهدف تلك العقوبات شَلّ مفاصل القوة في الدول المُستهدفة منها وخلق المزيد من الصعوبات في وجهها لإتمام مشاريعها، فمثلاً لم يسمع العالم بامتلاك باكستان للقنبلة الذرية (بعد امتلاك الهند لها) إلا بعد أن أصبحت أمراً واقعاً، فيما يخضع امتلاك إيران لقنبلة نووية إلى مخاض صعب محفوف بالعقوبات والتي تُعيق هذا المشروع وتضع أمامه العراقيل، لأكثر من عقدين من الزمن وتحويله لملفّ يُهدّد الأمن الدولي وفي النهاية إذا لم تُفلح العقوبات في ردع إيران عن ذلك، سيكون قد تَمّ إضعافها كثيراً مما يُسهّل أيّ عمل عسكري ضِدّها (وقد أثمرت العقوبات الامريكية والغربية عموما في إكراه إيران على توقيع الاتفاق النووي في 2015 وكانت العصا هي العقوبات والجزرة هي رفعها)، وهذا الاثر من العقوبات شاهدناه مع عراق صدام بعد تحرير الكويت حيث خلال 13 عاما من العقوبات، اجتاح الجيش الأمريكي العراق ووصل لبغداد وأسقط نظام الرئيس صدام خلال أسبوعان فقط من بدء الهجوم الأمريكي.
وأثبت الرد الإيراني على إسرائيل مُؤخراً أثر العقوبات الغربية في تَخلّف ورداءة السلاح الإيراني.
العقوبات الأمريكية على الأسد عقوبات استراتيجية
تَشمل العقوبات الأمريكية على نظام الأسد مُختلف الجوانب التي تُمِدّه بالحياة وستترك أثرها الواضح في المستقبل القريب.
منها عقوبات اقتصادية الطابع كقانون قيصر والذي يَهدف إلى تفكيك أيّ بنية اقتصادية حقيقية لنظام الأسد فمن بقي قبل إقراره من رجال الصناعة والتجارة والأعمال في مناطق سيطرته ومن يرغب من الخارج (سوريين أو غير سوريين) في الاستثمار في سوريا بعد النجاحات التي حققها التدخل الروسي لنظام الأسد واستعادة سيطرته على المزيد من الأراضي وتأمينه لمحيط المدن الكبرى. فبعد إقرار القانون غادر مناطق سيطرة الأسد كل الصناعيين والتُجّار الذين انتظروا استقراراً موعوداً، فمن حلب وحدها غادر بعد إقرار القانون الآلاف من الصناعيين وفككوا منشآتهم وباعوها بأبخس الأثمان وانتقلوا لأماكن أخرى، فيما صعدت إلى الواجهة كنتيجة حتمية طبقة أمراء الحرب ومن يلوذ بهم (وأغلبهم عليه عقوبات أوربية وأمريكية) لإدارة اقتصاد ظِلّ أسود ترعاه الميليشيات والمخابرات بإشراف وتوجيه من قصر بشار الأسد وأسماء الأخرس، وهو الوصفة النوعية لعدم بناء أيّ تنمية حقيقية وعدم ثقة المجتمع الدولي المانح لائتمانها على أموال إعادة الإعمار، حيث لا تعرف تلك المافيا غير إدارة عمليات فساد كبرى وانشاء نشاط صناعي استهلاكي بسيط لا تتعدى مسافة إيصال منتجاته إلى عشرات الكيلومترات، كإنتاج المشروبات الغازية في الساحل وتوصيلها لحلب ودمشق كحد أقصى أو العكس، صناعات تحويلية بسيطة يتم تبادلها داخل أراضي سيطرة الأسد، إضافة للعمل في إنتاج وتصنيع الكبتاغون.
وينظر بعضهم إلى سيطرة الولايات المتحدة على منابع البترول في شرق الفرات وإدارتها من قبل عصابات قنديل الفاسدة والمُفسدة غايته حرمان نظام الأسد من أيّ حامل اقتصادي ذاتي وحقيقي يُمَكّنه من الوقوف على قدميه وحرمانه من أيّ مردود مالي وازن لتقديم نفسه كقطب مركزي قادر على جمع السوريين حوله.
إضافةً إلى ما يَتضمّنه قانون قيصر من آثار اقتصادية فإنّ له أبعاداً سياسية وأخلاقية واضحة من اسمه الذي يرمز لجرائم كبرى ارتكبها نظام الأسد بِحقّ معتقلين ومغيبين قسرياً أبرياء.
ولأنّه لا يُمكن الفصل ما بين الآثار السياسية والاقتصادية فقد شاهد الأسد ومناصروه مسرحية درامية مُبكية حيث عندما حاول البعض تعويمه سياسياً بعد قمة جدة العربية كانت السيوف الاقتصادية الأمريكية له بالمرصاد.
ولا يُنكر الأسد نفسه أنه جزء من النفوذ الروسي في المنطقة ومُؤخّراً قالها بنفسه أيضاً بلقائه المتلفز مع الصحفي الروسي بل أضاف بأنه يقف في الصف المناهض للغرب، ونعلم أيضاً أنّ سيل العقوبات الغربية والتقارير الدولية الأممية أو من منظمات غير حكومية أو وصول ملف جرائم الأسد على الساحة الحقوقية الأوربية بما يَخصّ دعم الإرهاب وارتكاب جرائم ضِدّ الإنسانية سواء أمام محكمة العدل الدولية أو أمام محاكم بعض الدول كفرنسا وألمانيا وسويسرا وهولندا والسويد مع ملاحقة كل من عمل معه، ويمثّل هذا تجسيداً لحرق مراكب العودة الأوربية والدولية إلى الأسد أو العكس، خاصة أنّ المطلوب غربياً بتر كل مراكز النفوذ الروسي في الخارج.
وحقيقة كون الأسد جُزءاً أصيلاً من النفوذ الإيراني في المنطقة لا ينكرها أحد، ويبدو أنه بعد 7 أكتوبر والتصعيد الأخير بالأصالة بين إيران وإسرائيل بات دَحرُ أو بتر الأذرع الإيرانية من المنطقة هدفاً إستراتيجياً ومعلوم أن كلّ ذلك يبدأ من عند الأسد فهو الرابط الإستراتيجي بين حلقات المحور الإيراني في المنطقة.
ولأن العقوبات الأمريكية على نظام الأسد إستراتيجية وليست آنية فإنها تَتمّ عادةً بتوافق الحزبين والمرور بِيسر من المجلسين (النواب والشيوخ) و لتسهيل طريقها أكثر يَتمّ ربطها مع ملفات هامة كالميزانية الدفاعية الأمريكية حيث بعد توقيعها من سيد البيت الأبيض تحصل تلك القوانين على أهمية قوانين الدولة الأمريكية بِغضّ النظر أين تكون الأغلبية في الكونغرس أو الحزب الذي يحكم البيت الأبيض، فهي ليست اجتهاداً أو موقفاً سياسياً طارئاً يتعلق بحدث ما، يستطيع الرئيس الأمريكي الخروج منه كما حدث مع الرئيس ترامب عندما وقّع بقلمه العريض على خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الذي أبرمه سلفه الرئيس أوباما ولم تحظَ تلك المعاهدة بموافقة مجلسي التشريع الأمريكي.
وبالطبع يترك المشرعون الأمريكان مرونة معينة في قوانينهم تُتيح للرئيس حرية الحركة والمناورة في تطبيقها لأهداف المصلحة الأمريكية في حدود معينة.
وبصدور قانون الكبتاغون 1 الذي وقّعه الرئيس بايدن في كانون أول من عام 2022 وأصبح قانوناً ملزماً، استدعت الظروف اللاحقة قانوناً آخر لترميم ثغرات القانون الأول وتخويل الوكالات الأمريكية صلاحيات عملية أكبر لتطبيقه على الأرض.
مَرّ منذ أيام بسهولة و بأغلبية ساحقة مشروع قانون كبتاغون 2 من مجلس النواب وتبقى بقية المراحل ليصبح قانوناً أمريكياً مسالة وقت ليس أكثر، وقد تكون تداعيات سياسية استجدت مؤخراً في الجنوب السوري تحديداً استدعاه التناغم ببن المؤسسات الأمريكية المعنية مع المشرعين الأمريكان دعتهم يتجاوبون مع الضغوط التي تمارسها المنظمات السورية الأمريكية لإصدار مختلف القوانين التي تساهم في عزلة نظام الأسد أكثر، ولا يخفى على أحد تهديد الميليشيات الموالية لإيران للمملكة الأردنية الهاشمية وتموضعها على حدود الجولان والأردن، كما أنّ رخاوة سيطرة الأسد على حوران وخروج جبل العرب كاملاّ عن سيطرة الأسد قد تكون لعبت دورا ما في ضرورة إصدار قانون كبتاغون 2.
ويعلم الجميع أنّ قانون مناهضة التطبيع مع الأسد قطع محطته الأولى وتجاوز مجلس النواب بأغلبية ساحقة وإنه سيعبر بقية المراحل هذا العام وهو قانون طابعه وأهدافه سياسية.
سيكون منطقياً استخلاص نتيجة واحدة من كل تلك القوانين بأنه لا مستقبل للأسد ضمن المنظومة الدولية التي تقودها أمريكا، وإنّ نموذج كوبا لا يَصلح لتطبيقه عليه وتركه يهترئ كدولة مارقة، وقد يكون في هذه البقعة الحساسة من العالم معاملة الأسد على الطريقة العراقية أو الطالبانية بعد أن أدرك من يريد الموقف الأمريكي الإستراتيجي بعناية من خلال تلك القوانين.