أحمد كامل
بمناسبة عرض الفيلم الهندي “حياة المعيز” والضجة التي أحدثها، والجدل الذي فجره، هذه بعض مشاهداتي، رأي العين، في دول خليجية
١- عملت سنتين في مقر قناة سعودية، وهو موجود في بلد خليجي، وكان يوجد عمال هنود وباكستانيون وبنغلادشيون.. وكان هؤلاء (وخاصة عمال الأعمال البسيطة كالتنظيف والسواقة والعتالة..) يتصرفون على أنهم درجة دنيا، والجنسيات الأخرى (السعودية والإماراتية واللبنانية..) تقبل ذلك وتتعامل على هذا الأساس.
عندما يكون أحدهم أمام مصاعد مبنى القناة، فإنه يعطي الأفضلية للجنسيات الأخرى بالصعود للمصعد، ولو كان وصل قبلهم. يصعد الآخرون وهو ينتظر بذل، ويترك دوره، حتى يصعد الجميع، وإن بقي مكان، يصعد، وإذا لم يبق مكان، أو بقي مكان صغير، فلا يصعد، وينتظر المصعد التالي، وربما ما بعد التالي، وربما ما بعد بعد التالي.
كان الموظفون من الجنسيات الآخرين يتجاوزون هؤلاء الواقفين قبلهم أمام باب المصعد، ويعتبرون ذلك عملاً عادياً، طبيعياً. وكان هذا يغيظني أشد الغيظ، فأصر عليهم بأن لا يتخلوا عن دورهم لي، وأحيانا أطلب منهم أن لا يتخلوا عن دورهم للآخرين، وأحياناً أطلب من الآخرين أن لا يتجاوزوهم، وأن يسلموا عليهم (كان جماعة الجنسيات الأخرى عندما يصلون إلى أمام المصعد يسلمون على الموجودين من الجنسيات الأخرى فقط).
عندما كنت أسلم على هؤلاء، ولا أتجاوزهم، وأطلب منهم بكل الاحترام والتقدير التقدم للصعود للمصعد في دورهم، كان بعضهم يرفض، بعضهم يدهش، بعضهم يخاف، وبعضهم يستجيب بعد إلحاحي، لكنه يستحي ويتغير لون وجهه خجلاً ودهشة، وبعضهم يشعر بالحرج، لأنه تصرف كالسادة، وهو ليس منهم.
٢- في الدول الخليجية، كان أبشع وأقسى منظر أشاهده، هو منظر العمال الهنود والباكستانيين والبنغلادشيين… المكدسين في باصات بائسة غير مكيفة، وسط حرارة جهنمية، وهم ينظرون بتوجع وتفجع إلى السيارات المكيفة، وعيونهم تفيض ذلاً وبؤساً وشقاءً. كنت أنتفض كمن لسعته كهرباء أو أفعى وأشعر بالعار وتأنيب الضمير إذا جاءت عيني في عين أحد هؤلاء البؤساء الذين ينظرون هذه النظرات المهانة.
لاحقاً صرت أتجنب المرور بجانب هذه الباصات، لأتجنب عذاب مشاهدة هذه النظرات المستغيثة، المفجوعة، الذليلة، التي تفسد جمال المدينة ورفاهها وقشرتها الملونة الزاهية، وتذكر بأن كل هذه المباني العملاقة بنيت من عرق ودم وشقاء وذل بؤساء ينالون أجوراً مهينة، في ظروف لا إنسانية.
٣- في نهاية عملي في قناة أخرى، مقرها دولة خليجية، وزعت على كل العاملين في القناة، من مالك القناة إلى عمال التنظيفات، وردة مكتوب عليها “مني لك” مع توقيع إسمي. وزعت نفس الوردة على الجميع.
عندما كنت أقدم الوردة إلى العمال الهنود والباكستانيون والبنغلادشيون.. (خاصة أصحاب الأعمال البسيطة) كانوا يتفاجؤون ويصدمون. سألني أحدهم : لمن تريدني أن أوصل الوردة ؟ قلت له هي لك. واحتاج الأمر لتكرار الشرح، حتى أدرك أن الوردة له هو، وليست للتوصيل.
عامل آخر من هؤلاء لم يعرف ماذا يعمل بالوردة. أين يضعها، وإلى متى سيحتفظ بها. وعامل ثالث كان ينظر للوردة التي أعطيتها له، والورود التي أعطيتها لمالك القناة ونجومها من المذيعين والمذيعات، فيتأكد من أنها من نفس الحجم ونفس النوع ونفس الكتابة، فيضحك، ضحكة المصدوم.
٤- كنا مرة في عشاء يضم صحفيين، ومذيعين ومذيعات، في بلد خليجي، وانتهى العشاء بعد منتصف الليل، فأوصلنا زميلة لنا، مذيعة لبنانية، إلى فيلتها (دارها). فتحت الباب، وصرخت بأعلى صوتها للخادمة الأثيوبية الغارقة بالنوم : منى، أعطيني مي (ماء)، بدي أشرب. وكررت الصراخ حتى استيقظت الخادمة، وخرجت تحمل الماء وهي تفتح عيونها بصعوبة، وتسير كالسكارى، وسألت سيدتها : تريدين شي آخر ؟ قالت لها : لا ، روحي نامي.
كان راتب زميلتي المذيعة حوالي ٢٠ ألف دولار، وتعطي الخادمة ١٠٠ دولار في الشهر، عن خدمة ٢٤ ساعة يومياً. قلت لها الراتب قليل جداً، فقالت لي هي راضية. قلت لها إذا أعطيتها ٢٠٠ أو ٣٠٠ لن ترضى ؟
قلت لها : الخدامة أثيوبية (حبشية) فكيف اسمها منى ؟ قالت لي : ليس هذا اسمها الحقيقي، اسمها حبشي، فغيرت لها اسمها إلى اسم سهل، هو منى.
بالنسبة لي فإن إيقاظ شخص نائم، في عز نومة، ليجلب كأس ماء، جريمة بحق الإنسانية، وتغيير اسم إنسان، اعتداء على كيانه، والإنسان الحر حقاً لا يقبل استعباد أو إهانة أو التقليل من شأن إنسان آخر، حتى لو قبل هذا الإنسان الآخر استعباده أو إهانته أو التقليل من شأنه. من يقبل استعباد الآخرين، بأي قدر كان، بأي شكل كان، في داخله هو عبد.