لم تكد عاصفة “قمة فاس” تنتهي مع الأزمة التي فجرتها بين بريطانيا والسعودية، حتى انطلقت الأخيرة توظف ثقلها السياسي على الإنجليز، الذين بدوا مستعدين لدفع ثمن رضا الرياض في حدود الممكن، إلا أن كلا الطرفين اصطدما بتعقيدات القضية الفلسطينية، بما فيها مواقف ياسر عرفات المتباينة بحسب الضيف الذي يجلس إليه، قبل أن يتبين أن تهديدات السوريين جدية للزعيم الفلسطيني، بما في ذلك فرق الاغتيالات، فكان لا بد من مصارحة السعوديين بطلب الحماية!
ويشير المحضر السري المؤرشف ضمن وثائق الأرشيف الوطني البريطاني، إلى الحديث الدائر في اجتماع الأمير بندر بن سلطان والسير أنطوني بارسونز، في فندق بيركلي بالعاصمة البريطانية لندن، في الثاني من يناير (كانون الثاني) 1983.
كان الأمير بندر مبعوثا خاصاً للملك فهد بن عبدالعزيز، وأما السير بارسونز فكان ممثلاً عن الحكومة البريطانية باعتباره أحد أبرز الدبلوماسيين البريطانيين الذي سبق وقد شغل منصب السفير البريطاني في طهران الفترة ما بين 1974-1979.
أوفد الملك فهد، الأمير بندر إلى لندن لتعزيز موقف منظمة التحرير الفلسطينية بزعامة الرئيس ياسر عرفات والتنسيق حول مبادرة الرئيس الأميركي دونالد ريغان التي أعلنها مطلع سبتمبر (أيلول) 1982.
تشير الوثيقة إلى أن الملك كان استقبل الوفد الفلسطيني برئاسة ياسر عرفات بمرافقة أبو إياد، وفاروق قدومي، وخالد الحسن في جدة امتد وقتاً قياسياً بلغ 6 ساعات. وتذكر الوثيقة أن الوفد الفلسطيني للمرة الأولى كان منسجماً بحضور الملك ولم تحدث أية خلافات بين أعضائه، وهو الأمر الذي أثار استغراب الملك فهد حينها.
هدوء عرفات غير المعتاد
جاء في محضر المباحثات السرية، أنه “بعد المجاملات استفسر الأمير بندر عن التأجيل المغربي الأخير لزيارة وفد جامعة الدول العربية. وما هي الرسالة التي بعثها الملك الحسن؟ ثم قال بندر إنه أبلغ الملك فهد بكامل محادثاته مع السير بارسونز في الـ25 من يناير (كانون الثاني). كان الملك سعيداً جداً بموقف رئيسة الوزراء (البريطانية). وكان رأيه بعد ست ساعات من المحادثات مع عرفات في نهاية الأسبوع الماضي أن القضية الأكثر إلحاحاً بالنسبة لنا جميعا الآن هو كيفية إجراء التفاوض كما منصوص عليه في خطة (الرئيس الأميركي) ريغان التي بدأت خلال زيارة الملك حسين. كانت زيارة وفد جامعة الدول العربية إلى لندن ثانوية، وحضر محادثات الملك مع عرفات أبو إياد والقدومي، وكذلك خالد الحسن الأكثر اعتدالاً”.
لكن المحضر يشير إلى شيء لافت، هو أن الملك ظهر مصدوماً بسبب عدم وجود عداء بين عرفات ورفيقه وهو أمر غير معتاد، إذ كان “عرفات أراد قبل كل شيء عقد اجتماع ناجح للمجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر العاصمة في الـ14 من فبراير (شباط)، كانت غايته عدم الخروج بقرارات صعبة في شأن قضايا محددة، والتصويت على منح قيادته الثقة والحصول على إذن شامل بمتابعة مسار المفاوضات”.
سوريا تعرقل وتهدد
وحول موقف الرئيس السوري حافظ أسد من اجتماع الفلسطينيين في الجزائر تشير الوثيقة إلى أن سوريا كانت تحاول عرقلة المفاوضات من خلال دعم الفريق الفلسطيني المتطرف وتمكينه من تنفيذ عمليات إرهابية في أوروبا.
وجاء في الوثيقة، أن السوريين “يحاولون التأثير في الاجتماع من خلال دعم عمليات إرهابية في أوروبا، وتعطيل الاجتماع بمجرد أن يبدأ. على الجانب الأول، أرسلت كاي دورسي (وزارة أوروبا والشؤون الخارجية في فرنسا) رسالة إلى عرفات أثناء وجوده في جدة تحذره من أن بعض الجماعات الفلسطينية المدعومة من سوريا (بما في ذلك أبو نضال التي تعمل من دمشق وليس بغداد) قد تسللت بالفعل إلى أوروبا، ولديها تعليمات بالتحرك ضد منظمة التحرير الفلسطينية والأهداف السعودية هناك في الفترة من الـ10 إلى الـ14 من فبراير”.
وتؤكد الوثيقة أن الأمير بندر نقل اتفاق الملك مع عرفات على أنه “من المهم الحصول على تأييد واسع من المجلس الوطني الفلسطيني لسياساته الحالية. وكان اختيار الفلسطينيين لتشكيل وفد مشترك في عهد الملك حسين إحدى القضايا الرئيسة التي كان يعالجها عرفات. كان ملحم وغيره من رؤساء بلديات الضفة الغربية اختيارات واضحة لذلك، ولم ترغب منظمة التحرير الفلسطينية في حرق ملحم قبل اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني بإرساله إلى لندن مع فريق الملك حسن. لذلك اتفق الملك فهد مع عرفات على أن بعض التأجيل الإضافي سيكون الأفضل، واقترح خالد الحسن بأنه نظراً إلى أن السيدة تاتشر كان لها دور مهم تؤديه نيابة عن العرب في التواصل مع الرئيس ريغان، يجب عدم ذكر التأجيل بأنه خطأ بريطاني. وتعليقاً على الذريعة المستخدمة لتفسير التأخير في الإعلان المشترك (أسباب داخلية مغربية)، قال بندر إن هذا قد يضر المغاربة”.
الشروط الفلسطينية لبدء المفاوضات
وتنقل الوثيقة التالية، أن المسؤول البريطاني بارسونز سأل بندر بن سلطان عما يحتاج إليه عرفات لحمله على البدء والشروع في المفاوضات، فأجاب بأنه أخبر الملك في نقاط أن منظمة التحرير الفلسطينية بحاجة إلى، “أولاً الحماية من سورياً، وثانياً في لبنان الأموال توجه مباشرة إلى الفلسطينيين، وثالثاً التأكيد على أن ريغان يتمسك بمبادرته المعلنة في الأول من سبتمبر (أيلول) التي كان العرب المعتدلون يخاطرون بها
ونتيجة لذلك تقول الوثيقة إن الملك فهد قرر إرسال رسالة خاصة يسلمها الأمير بندر إلى الرئيس ريغان للحصول على تأكيدين، بأن “يدخل الوفد المشترك في مفاوضات بناءً على “إعلان فاس” وقرارات الأمم المتحدة في شأن فلسطين، وسيبحث عن جسور مع مقترحات ريغان، وليس فقط على أساس إعلان ريغان. كما على الرئيس ريغان أن يتمسك بما قاله في الأول من سبتمبر (ايلول)، ومبدأ “الأرض مقابل السلام” (وفقا لقرار مجلس الأمن رقم 242) الذي رفضه الإسرائيليون في ما بعد. وعلى وجه الدقة، ذكر الرئيس أن المدى الذي ينبغي أن يطلب فيه من إسرائيل التخلي عن الأراضي سيتأثر بقوة بمدى السلام الحقيقي والتطبيع، والترتيبات الأمنية المقدمة في المقابل”.
ثم تساءل السير بارسونر “هل هذا يعني أن جميع الأراضي المحتلة في عام 1967 (باستثناء قطع الأراضي الصغيرة اللازمة لتصحيح الحدود) يمكن استبدالها بسلام “حقيقي”، إذا قرر العرب تقديم ذلك؟”.
رسالة عربية وبريطانية إلى “ريغان”
وتروي وثائق الأرشيف البريطاني التي طالعتها “اندبندنت عربية”، أن الأمير نقل لمحاوريه أن التعليمات لديه “كانت العودة في الرابع من فبراير (شباط) إلى جدة، ومناقشة شكل الرسالة الموجهة إلى ريغان مرة أخرى مع الملك، ثم أخذ مسودة لتسويتها مع عرفات. وإذا وافق على النص، فإن بندر سيسلمها بنفسه إلى ريغان ويحاول الحصول على إجابة قبل اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني في الـ14 من فبراير (شباط). وكان التوقيت ضيقاً للغاية نظراً إلى أن نائب الرئيس بوش والوزير شولتز كانا في الخارج. لكن الملك رأى أنه من الضروري إشراك عرفات وبقية القيادات المشاركة في المفاوضات قبل طرح أفكار ثانية (أو أي عوامل تشتيت أخرى) في اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني”.
من جانبه قال السير بارسونز إنه “عرض على رئيسة الوزراء اقتراح الملك فهد، الذي نقل له في أول لقاء مع بندر، بأن تتصل هاتفياً أو تكتب إلى الرئيس ريغان للتأكيد على خطورة التأخير، خصوصاً في موضوع انسحاب القوات الأجنبية من لبنان، فقال بندر إنه قد يكون من الأفضل الانتظار بضعة أيام، لأن قدرة تركيز الرئيس ريغان على أكثر من شيء في آن واحد محدودة. وفي غياب بوش وشولتز، لم يكن لديه سوى السيد دام وكلارك لتقديم المشورة له”.
الجالية اليهودية في أميركا تتدخل إيجابياً!
وأضاف السير بحسب الوثيقة بين أيدينا، أنه “إذا توصل العرب إلى مفاوض معتمد لفلسطين وغزة، فإن الجالية اليهودية في الولايات المتحدة ستدعم خطة ريغان. ولكن لم يقل بندر أنه فوض من الملك فهد لمناقشة هذه النقطة مع الممثلين اليهود في الولايات المتحدة، الذين أخبروه بالمثل. بل إن اليهود الأميركيين سيؤيدون تجميد المستوطنات مع استمرار المفاوضات. ولكن إذا لم يظهر أي مفاوض عربي، فإن خطة ريغان لن تكون مقبولة لدى اليهود الأميركيين. وقال إيجيرتون في الوقت الذي تبدو فكرة تجميد الاستيطان جيدة، فإن المشكلة الحقيقية هي وقف الإضافات إلى المستوطنات القائمة وتوسيعها: وهو تنازل أصعب بكثير، نظراً إلى نقص المساكن، وما إلى ذلك”.