سمير التقي
قبيل المناظرة، تحدث المخرج المسؤول عنها قائلاً: إذا أردت ان تحكم على مآلها، عليك أن تغلق صوت التلفزيون، وتقرأ لغة الجسد للطرفين. في مناظرة كهذه تحسم لغة الجسد والبداهة والذكاء العاطفي الانطباع العام.
دخل دونالد ترامب المناظرة وخلفه سنين طويلة من الخبرة السياسية والإعلامية، وخبرة رجال الأعمال، و19 مناظرة علنية ضدّ خصومه. لكن كبار مستشاري ترامب كانوا قلقين، وطالبوه بالتركيز على برنامجه الاقتصادي والاجتماعي، والتخفيف من الحديث عن نفسه، وضبط الهجوم الشخصي على كامالا هاريس.
من جهتها، كمحامية عامة وعضو في الكونغرس، حملت هاريس معها خبرتها في الحجة المنطقية. لكنها اعتمدت دوماً على أفكار مكتوبة وخطاب مضبوط. وكانت خشية مستشاريها أن تفقد عفويتها وهيبتها لتترك الساحة لترامب، يعربد فيها. كما أن خبرتها لا تُقارن بخبرة ترامب. لذلك درّبوها على مساجلة شبيهٍ لترامب من حيث الشكل والمضمون. وكان لدى هاريس الكثير لتكسبه من المناظرة، لكنها إن خسرت فسوف تخسر بشكل نهائي.
فلقد وجد استطلاع للرأي أجرته صحيفة “نيويورك تايمز”، أن 28% قالوا إنهم “بحاجة إلى معرفة المزيد عن كامالا هاريس”، مقارنة بـ9% فقط قالوا الشيء نفسه عن ترامب. لذلك أكّد مستشارو هاريس عليها للتعريف بسيرتها الشخصية ولشرح برنامجها الاقتصادي والاجتماعي.
وكان الترقّب كبيراً: هل ستتمالك هاريس نفسها لمدة 90 دقيقة؟ هل ستضبط أفكارها؟ هل ستحتفظ بعفويتها؟ وتعطي انطباعاً بالزعامة والمسؤولية؟
ثم من سيكون في موقع الدفاع ومن سيكون في الهجوم.
لحظة دخولها إلى مسرح المناظرة بدت هاريس واثقة، واستبقت ترامب وذهبت لمصافحته بندية. وبذلك بدأت المبارزة!
ركّز ترامب على مقولته إن أميركا قيد الانهيار في زمن بايدن، حيث يهاجر ملايين المجرمين إليها، وهم ينافسون السود واللاتينيين على فرص العمل. بل ردّد ترامب مرّات عدة أن المهاجرين يأكلون القطط والكلاب التي يربيها الأميركيون. واتّهم الديموقراطيين بالفساد والتواطؤ مع الدول التي تنافس أميركا مثل الصين، وبالتراخي مع إيران.
وأتبع ذلك بتأكيد أنه سيستخدم الجيش لطرد ملايين المهاجرين. وتحدث عن ضرورة إعادة النظر في النظام الصحي “أوباماكير”. تلخص برنامجه الاقتصادي برفع الرسم على كل المستوردات، وتخفيف الضرائب على الأعمال، وتحرير الصناعة من القيود البيئية التي وضعتها الإدارات الديموقراطية.
ثم، وإضافة لقوله إنه لو كان موجوداً لما حصلت حرب أوكرانيا ولا حرب غزة، فلقد كرّر أنه لو نجح سوف يغلق الصراع الأوكراني حتى قبل أن يصل إلى البيت الأبيض. وقال إنه لو نجحت هاريس فستزول إسرائيل خلال سنتين، وتنفجر حرب عالمية مع روسيا.
في مناسبات عدة تجنّب ترامب الإجابة: هل سيقبل نتيجة الانتخابات لو خسر؟ وهل حرّض على أحداث السادس من كانون الثاني (يناير)؟ وكذا موقفه الحقيقي من الإجهاض؟ الخ…
ركّزت هاريس على برنامجها الاجتماعي، وبعدما تحدثت عن قضيتها المركزية، وهي دعم الأعمال الصغيرة وبناء اقتصاد الفرص، أوضحت برامجها لدعم الأسر والتعليم والطفولة والصحة إلخ… وقالت لو أن ترامب كان في السلطة لغزت روسيا أوكرانيا وعينها على بولندا وأوروبا. وفي جملة عابرة أكّدت فكرة حل الدولتين كهدف لحل المسألة الفلسطينية – الإسرائيلية.
لم أهدف من هذا العرض الّا إلى تلخيص ملامح عامة جداً للمناظرة.
لكن، رغم أهمية المضمون، وكما تحدث صديقنا المخرج، يبقى جزء كبير من الحكم على المناظرة مناطاً بلغة الجسد وبتقنيات السجال، والجدل، سواء من حيث بناء الحجة، والحجة المضادة، أم من حيث لغة الجسد.
لقد فاجأتني هاريس بتماسكها وثقتها وحجتها وتتبعها لتسلسل أفكارها. وفي 69% من كلامها تحدثت عن مشروعها وتجاوزت السجال مع ترامب للتوجّه مباشرة إلى الجمهور في لفتة قوية، تخاطبه وتناشده. ثم اشتبكت مع ترامب في 31% من مداخلاتها. واتهمته بالبعد عن الحقيقة، وبأنه في حال وصوله إلى السلطة سيصبح ديكتاتوراً وسينتقم من خصومه ويجنّد الجيش لطرد المهاجرين قسراً، بحسب الكثير من زعماء العالم ومن العسكريين الأميركيين.
تحدث ترامب، من جهته، بخبرة وتركيز وثقة بالنفس وبشكل عام كانت أطروحاته ترضي الناخبين الجمهوريين المحافظين لولا تردّده في قضية الإجهاض.
تحدث ترامب بنسبة 55% هجوماً على الوضع الأميركي العام في ظل بايدن (أمة قيد الانهيار).
في تقنيات السجال تمكنت هاريس من استدراج ترامب إلى عدد من الأفخاخ. فكان يضطر للعودة إلى تصريحاته المبالغ فيها، أو يستشهد بشواهد ضارّة مثل استشهاده بالزعيم الهنغاري أوربان.
وفي فخ آخر انزلق للحديث عن المهاجرين الذين يأكلون قطط الأميركيين وكلابهم. وكانت تلك نهفته الكبرى. فلقد كذّبه على الهواء مباشرة حاكم مدينة سبرنغفيلد، الذي قال إن أكل الكلاب والقطط لم يحصل فيها.
وأحرج ترامب هاريس في عدد من القضايا مثل الهجرة والموقف من استثمار النفط الصخري. وكانت حجته الأقوى حين سأل هاريس لماذا لم تنفّذ مشاريعها خلال وجودها في البيت الأبيض؟ لكنه لم يستثمر هذه القضية رغم كونها أقوى حجة في سجاله.
في لغة الجسد كانت هاريس هادئة متماسكة، وكان ترامب متدفقاً ومتحمساً. لكن حماسته تحولت في كثير من الأحيان إلى غضب وانفعال. ورغم كونه لم يخرج عن طوره، لكنه انحرف عن أجندته المفترضة وكرّر بشكل ممل اتهاماته للديموقراطيين.
وحينما نظرت هاريس في عينيه لتصفه كشخص فظيع يستهزئ به الجميع، أشاح ترامب بوجهه بعيداً. وكانت تلك لحظة فاصلة هيمنت بعدها هاريس على النقاش وصارت تبتسم وتستهزئ به.
عندها انتقلت هاريس نحو الهجوم، وصار ترامب في الدفاع. نعم، يقدّر أغلب الخبراء أن هاريس تفوقت نسبياً ليعطوها 70% نجاحاً، بينما أعطوا ترامب تقييماً انّه نجح بنسبة 45%.
بعد نهاية المناظرة طالب المرشح لنائب الرئيس مع هاريس، أن تُجري مناظرة مع ترامب كل يوم، وفيما ينتقد بعض كبار الصحافيين الجمهوريين ترامب، تبقى المناظرة مبارزة واحدة في سلسلة من المعارك.
لا يعني ذلك بتاتاً أن الانتخابات قد حُسمت، إلّا أنّ المناظرة، بلا شك، أعطت بعض النقاط المهمّة لهاريس في سباق الرئاسة. وفي بلاد يشكّل فيها اللاحزبيون والمتأرجحون 15% من الناخبين، يبقى الترقب سيّد الموقف حتى اللحظة الأخيرة.
النهار العربي