في حزيران 2022، كان الاقتصاد التركي على حافة الهاوية، وكانت تركيا تواجه أزمة ميزان مدفوعات محتملة، مما يعني أنها لن تكون قادرة على سداد ديون العملات الأجنبية ودفع فواتير البضائع المستوردة، كان مؤشر مقايضة التخلّف عن السداد، الذي يُدفع سنوياً لضمان استرداد سندات “اليورو-بوند” المقومة بالدولار لمدة خمس سنوات، يحوم قرب 900 نقطة، وهو أعلى مستوى منذ الأزمة المصرفية، عام 2001.
وكانت التصنيفات الائتمانية السيادية للقروض الخارجية في أدنى مستوى لها خلال 20 سنة، في الأشهر التي تلت ذلك، بدأت الأمور تتحسن ببطء حيث استفادت تركيا من ظروف اقتصادية عالمية أقوى إلى جانب قيود جديدة على رأس مال الشركات المحلية، وتدفقات نقدية غير رسمية من الخارج، وطقس شتوي أفضل من المتوقع، وكلها وفّرت فترة راحة مؤقتة من المشكلات الاقتصادية الطويلة الأمد في البلاد.
لكن بعد ذلك في السادس من شباط حدث الأسوأ، تعرّضت تركيا وسوريا المجاورة لزلازل هائلة بلغت قوتها 7.8 و7.5 بفارق ساعات فقط، تجاوز عدد الضحايا في تركيا حتى تاريخه الـ40 ألفاً وأصيب عشرات الآلاف، ودُمرت آلاف المباني، ويقدر إجمالي الأضرار المادية وخسائر النمو المستقبلي بعشرات المليارات من الدولارات.
ثلاثة عوامل أساسية أسهمت في استقرار الاقتصاد التركي خلال النصف الثاني من 2022:
العامل الأول: قيود رأس مال الشركات، كان هذا هو أشد قيود رأس المال صرامة منذ عام 2001، وأجبر الشركات على بيع ممتلكاتهم النقدية من العملات الأجنبية والودائع أو تحويلها إلى حسابات ودائع محمية بالعملات الأجنبية.
القروض مع معدلات فائدة نحو 10-15% من البنوك الحكومية جذابة جداً حيث تتجاوز توقعات التضخم 30%، لم تتردد العديد من الشركات في تحويل ودائع العملات الأجنبية الخاصة بها إلى حسابات الودائع المحمية بالعملات الأجنبية، حيث يحتفظ كلاهما بقيمة من حيث العملة الصعبة.
كان إدخال حسابات الودائع المحمية بالعملات الأجنبية أواخر 2021 قد أوقف الدولرة بالفعل، بدأت هذه اللائحة الجديدة عملية إزالة الدولار وسحب البنك المركزي التركي معظم ودائع العملات الأجنبية لدعم احتياطيات العملات الأجنبية الضعيفة. ومع ذلك فإن كلفة هذه الأداة مرتفعة، فقد دفعت وزارة الخزانة 92.5 مليار ليرة (4.92 مليارات دولار) لأصحاب الودائع حتى الآن.
العامل الثاني (المهم): التدفقات النقدية غير الرسمية الواردة من الخارج، خارج نطاق السلطة التنظيمية للحكومة وأدوات السياسة النقدية.
تلقت الحكومة التركية أموالاً من الخارج من خلال تعزيز علاقاتها الثنائية، ولا سيما مع روسيا.. التدفقات النقدية الخارجية التي لم تُسجّل كجزء من أي معاملات مالية أو تجارية كانت منذ فترة طويلة وسيلة لتعويض العجز في الحساب الجاري، ومنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، أصبحت هذه التدفقات من مصدر غير معروف مصدراً رئيسياً للتمويل.
وخلال فترة ارتفاع أسعار الطاقة التي دفعت عجز الحساب الجاري إلى 48.8 مليار دولار، تلقت تركيا 24.2 مليار دولار من الأموال غير الرسمية، مما يجعلها ثاني أكبر مصدر للعملات الأجنبية بعد صناعة السياحة.
العامل الثالث (المهم): تحسّن الطقس ساعد الاقتصاد أيضاً، بسبب الظروف الجوية التي كانت أفضل بكثير من المتوسطات الموسمية.
تغيرت التوقعات بالنسبة للاقتصاد العالمي بشكل كبير في الأشهر الستة الماضية، وتمكنت الاقتصادات الأوروبية – أي شركاء تركيا التجاريين الخارجيين الرئيسيين – حتى الآن من تجنب ركود عميق ناجم عن تقنين الطاقة.
لم يؤد الطقس الشتوي الدافئ إلى خفض أسعار الغاز في القارة فحسب، بل أدى أيضاً إلى انخفاض الطلب، مما أدى إلى انخفاض كبير في فاتورة الطاقة في تركيا، كذلك أسهم بذلك انخفاض مدفوعات الغاز للمستوردين، وحجم الصادرات الأقوى من المتوقع إلى أوروبا، بإجمالي أكثر من 10 مليارات دولار.
تمكنت الحكومة من الهروب من أزمة العملة التي تلوح في الأفق من خلال هذه السياسات والتغيرات في البيئة الدولية، ومع ذلك لم تتم معالجة المشكلات الأساسية التي تواجه الاقتصاد التركي أو حتى تأخيرها، بالتأكيد ما يزال الاقتصاد شديد التأثر بالصدمات المالية الخارجية أو تدهور التوقعات المحلية، ومن المرجح أن تؤدي الزلازل الأخيرة إلى تفاقم هذه القضايا.
من غير الواضح ما إذا كانت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية ستستمر في منتصف شهر أيار/ مايو كما هو مقرر، ولكن من المرجح أن تبذل وزارة الخزانة والبنك المركزي في تركيا، قصارى جهدهما لتهيئة الظروف المناسبة لانتصار الرئيس رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية. فضلاً عن تعزيز النشاط الاقتصادي ودعم القوة الشرائية للعائلات، والحفاظ على الاستقرار المالي.
الكلفة الإجمالية للدمار الناجم عن الزلازل ما تزال غير واضحة، لكنها لن تقل عن 10 مليارات دولار ويمكن أن تكون أكثر من ذلك بكثير – ما يصل إلى 84 مليار دولار، وفقاً لأحد تقديرات مجموعة الأعمال، أو نحو 10٪ من الناتج المحلي الإجمالي.
فانهيار أكثر من 8000 مبنى سكني وتجاري، سيحتاج إلى إعادة بناء والعديد غيرها سيتعين إصلاحها أو استبدالها إذا تم تشديد معايير البناء، فقد تعرضت المباني العامة مثل المدارس والمشافي والمكاتب الحكومية لأضرار جسيمة، كما يجب إصلاح خطوط الغاز والنفط والكهرباء بين المدن، وتعرضت لأضرار متوسطة، بعض البنية التحتية الاستراتيجية مثل: طريق طرسوس-عنتاب السريع، وميناء إسكندرون، ومطار هاتاي.
لم يُفصح عن أي معلومات حتى الآن بشأن تضرّر أنابيب النفط ومصانع الصلب ومحطات الطاقة الحيوية، وتوضح الخريطة المرفقة أهمية المنطقة المتضررة لصناعة الصلب التركية.
بالإضافة إلى إعادة الاعمار، هناك تكاليف أخرى أيضاً مثل: نفقات المعيشة لمئات آلاف الأشخاص المتضررين من الزلازل، إجمالي عدد سكّان المنطقة المتضرّرة هو 13.4 مليوناً، معظمهم آمنون، ومع ذلك ستتغير ظروف عملهم، سيحتاج ما لا يقل عن نصف مليون منهم إلى دعم الدولة لتلبية احتياجاتهم الأساسية – الطعام والسكن والتدفئة، يجب أن تؤخذ النفقات الطبية والتعليمية في الاعتبار أيضاً، كما ستؤثر الزلازل على قدرتهم على العمل والاستهلاك.. حتى الآن خصّصت الحكومة التركية مبلغاً أولياً قدره 5.3 مليارات دولار للإغاثة في حالات الكوارث.
كان من المتوقع أن ينمو الاقتصاد التركي بنحو 3-3.5% في عام 2023، بما يتماشى مع معدل النمو الطبيعي، وتعتبر المنطقة المتضررة من أهم المناطق الاقتصادية في البلاد بعد المناطق المحيطة بإسطنبول.
سيكون الانتعاش تدريجياً ولن يحدث قبل عام 2024، علاوة على ذلك، فإن مناطق تركيا المختلفة مندمجة بشكل كبير ، مما يعني أن النشاط الاقتصادي على المستوى الوطني سيتباطأ أيضاً، لذلك من الممكن خسارة 2.0-2.5% من النمو، مما يعني أن الناتج المحلي الإجمالي لتركيا سينمو بمعدل 0.0-1.0% فقط في عام 2023، وهذا أقل من متوسط معدل النمو السكاني، وهو 1.5%، باستثناء المهاجرين واللاجئين وبالتالي فإن الزلزال سيؤدي إلى انخفاض طفيف في نصيب الفرد من الدخل القومي.
الانتخابات المقبلة ما تزال مصدراً رئيسياً لعدم اليقين، الاحتجاجات الاجتماعية ممكنة وقد يؤدي الاستقطاب السياسي إلى نشوب صراعات خطيرة، حتى الآن، لم يطرأ أي تغيير على النموذج الاقتصادي المطبق، ولكن من دون تغيير في السياسة ستظل سيولة العملات الأجنبية نقطة ضعف بالنسبة لتركيا.
على الرغم من حالة عدم اليقين والعوامل المختلفة التي تلعبها، مثل الظروف الاقتصادية العالمية والتوقعات السياسية الداخلية، فمن المرجح أن يشهد الاقتصاد التركي حالة من الركود أو النمو دون معدله الطبيعي، سيتجاوز التضخم التوقعات، وعلى الرغم من استمرار انخفاض أسعار الطاقة سيظل العجز الخارجي مرتفعاً مع انخفاض الطاقة الإنتاجية ومستويات التصدير.
من الممكن حدوث انخفاض كبير في العمالة، يبدو أن على الحكومة تغيير أو على الأقل مراجعة نموذجها الاقتصادي، المزيد من الدعم المالي من قطر والمملكة العربية السعودية وروسيا ما يزال محتملاً.، من غير المتوقع الحصول على قرض جديد من صندوق النقد الدولي ولن تغطي أي إغاثة دولية سوى الاحتياجات الأساسية للأشخاص في المنطقة المتضررة من الزلازل، المساعدة المالية من بنوك التنمية الدولية ضرورية، لكن مساهمتهم ستكون محدودة بسبب العلاقات السيئة للحكومة مع الغرب، وستكون تدريجية.. التحديات التي تواجه الاقتصاد التركي لا تعد ولا تحصى وبغض النظر عن كيفية سير الانتخابات المقبلة، يبدو أن الطريق أمام تركيا وعر وصعب.
مخلص الناظر – تلفزيون سوريا