كنت وسأبقى واقعياً لأبعد الحدود..
تصل الواقعية أحياناً لحدٍ صادم ليس أصيلاً في طباعي،
هذه الواقعية هي التي تدفعني اليوم للإقلال ما أمكن من الحديث في الشأن السوري، أو الكتابة عنه.
لماذا؟ … لأننا في رفاهية وجودنا خارج واقع المعاناة المؤلم الذي يعيشه سوريو الداخل جميعاً، أشبعنا الشأن السوري (من مهاجِرِنا) بتحليلات وتفنيدات ودراسات لحد الإغراق، في اغترابٍ كامل عن حالة الضنك المعيشي التي لم تعد توفر أحداً على امتداد التراب السوري، سواء في المناطق الواقعة تحت سلطة النظام أو خارجها، موالين ومعارضين ورماديين، والتي لا أستبعد أبداً أنها ستكون هي دون سواها النقطة الفاصلة في المأساةِ السورية.
أخص بكلامي أفواج (المحللين والناشطين والاستراتيجيين) الذين هجروا أعمالهم ومهنهم الأصلية، مع هجرتهم من سوريا مابعد 2011، وتحولوا بإصرار إلى (معتاشين) على المأساة السورية، يُنَظِّرون فيها وحولها، للحد الذي أصبح فيه هذا النشاط مهنتهم الوحيدة ومصدر دخلهم الرئيس.
من حق السوريين جميعاً، بل من واجبهم، التحدث في الشأن السوري والاهتمام به.
الأمر الذي ليس حقاً ولا واجباً، ولا حميداً، هو أن يتحول هذا الاهتمام إلى مهنة وتجارة، ومقاولة، مادتها الخام جراحات السوريين وعذاباتهم.
المعادلة عندي واضحة وبسيطة:
عندما يرتفع صوت الداخل السوري، فعلى الجميع الإنصات له، بل والتعلم منه، لا التنظير حوله والمزايدة عليه، ومحاولة ركوب موجته لأخذه باتجاه آخر، وإذا كان هذا الصوت من “الجبل الأشم”، من “سويداء” القلب السوري، تُرْفَعُ الأقلامُ وَتَجُفْ الصحف … وتوضع نقطه كبيرة على السطر.
يدرك دروز سوريا (وبوضوح شديد) حجمهم وتأثيرهم وخصوصيتهم في النسيج السوري المتداخل، ولكن هذا الإدراك لم يكن يوماً حائلاً بينهم وبين هموم وطنهم وشجونه، فهم شاؤوا أم أبوا، جزء أصيل منه، وفي اللحظة التي يشعرون فيها بأن وطنهم السوري على مفترق طرق مهم، تتلاشى كل الخصوصيات، ليتماهى العضو الأصيل مع باقي الجسد، ولأبعد وأعمق الحدود, ولكن دوماً ضمن حسابات دقيقه ومعقدة يفرضها هذا الإدراك في وعيهم الجمعي، وبحساسية مرهفه.
إذا كان البعض ينظر للدروز على أنهم أقلية عددية في سوريا، (وأنا أرفض هذا التوصيف لهم ولأي من مكونات الجسد السوري الواحد)، فهم (الدروز) عرفوا تماماً كيف يحولونها إلى أكثرية وطنية، من خلال التصاقهم بالقضايا السورية الكبرى وفي مقدمتها استقلال سوريا ووحدة أرضها وشعبها.
هذا الإدراك الواقعي عند دروز سوريا لحجمهم وتأثيرهم وخصوصيتهم، بالإضافة لعوامل أخرى عديدة، هو الذي فرض أن يكون انخراطهم في الحراك الشعبي السوري أكيداً وفاعلاً، وبنفس الوقت محسوباً وبدقه شديدة. ولعل الدقة والموضوعيه تقتضي الاعتراف بأن تعامل النظام مع حراك أهلنا الدروز كان (عموماً) محسوباً أيضاً، وبحذر، لم نلمسه في تعامله مع حراك باقي الطيف السوري، خصوصاً فيما قد يعتبره البعض (حاضنته الاجتماعية) للحد الذي لم يعد مستغرباً أن نسمع بعض الأصوات الخافته في المحيط (العلوي) للنظام، الموالي والمعارض، والتي تتمنى أن يكون تعامل النظام مع مطالبها واحتياجاتها بنفس طريقة تعامله مع مطالب واحتياجات أهلنا الدروز.
هذا التعامل المحسوب من طرف النظام مع حراك أهلنا في السويداء (والذي قد يتغير في لحظةٍ ما) لم يكن منةً يتفضل بها عليهم، بل كان واقعاً فرضوه هم عندما رفضوا بشكل قاطع إرسال أبنائهم للخدمة الإلزامية، في رسالةٍ واضحة بأنهم لن يكونوا طرفاً في معركة بين النظام وباقي مكونات شعبهم السوري، كان واضحاً منذ اللحظة الأولى أنه لن يكون فيها رابحين أبداً، بل الكل خاسر، وبالمطلق.
الأمر الآخر الذي استوجب هذا التعاطي المحسوب من قبل النظام مع حراك السويداء هو أن للنظام حساباته أيضاً، (وهي أيضاً متغيرة)، والتي كم تمنينا لو أنها كانت أكثر حصافةً ودقةً في تعاطيه مع الشأن السوري بعمومه وتشمل السوريين جميعاً على امتداد الأرض السورية.
يأخذ البعض على أهلنا في السويداء رفع راية تمثل الدروز، فيما يفسرونه على أنه طموح انفصالي نحو دولة درزية تنال من وحدة سوريا، متناسين تماماً أن الدروز رفضوا وبالمطلق كل محاولات الانتداب الفرنسي وقتها لإنشاء هذه الدويلة، إلى جانب دويلات أخرى، في إصرار منهم على البقاء مكوناً أصيلاً في الجسد السوري الواحد.
الأمر بكل بساطة هو أن أي مجموعه بشرية تشعر أنها مقبلة على مواجهة مصيرية تتعلق بمعاشها ومستقبلها، تحتاج لما يشدّ من عزيمتها ويوحّد صفوفها، ولعل السؤال البديهي هنا هو: لماذا لم تكن الراية الرسمية للدولة السورية هي التي توحد الجميع تحتها؟ والذي سيستدعي بالمقابل سؤالاً قد يكون صادماً ولكنه أكثر أهميةً واستحقاقاً، وهو:
هل لازال العلم الرسمي للدولة السورية فعلاً وبالحقيقة شعاراً يوحّد السوريين كلهم؟ أم أنه فقد الكثير من رمزيته وقيمته العليا بعد كل ما تم تحته وفي ظله من استهداف لمدنيين سوريين عزل في مدنهم وقراهم؟ وأنا أؤكد هنا على المدنيين ولا أتحدث أبداً عن مواجهات مع مجموعات مسلحة شارك الجميع (وأؤكد الجميع) في صناعتها وتشغيلها؟
عندما استحضر الدروز ما يعتبرونه رايةً تمثلهم فهم على الأقل فعلوا ذلك من تراثهم المحلي الوجداني، ولم يستحضروا مظاهر وأعلاماً وشعارات تمثل دول أخرى ولا شعارات طائفيه أو غريزية.
بنو معروف، لم يخرجوا عن المألوف، بل سوريا كلها والسوريون جميعاً خرجوا عن المألوف عندما لم يستطيعوا بعد كل ما مروا به منذ 2011 وحتى اليوم، أن يتوافقوا على أبسط مايمكن أن يتوحدوا حوله، ولاتلوح في الأفق أية إشارات مبشرة بتوافق كهذا، لعل ضنك الحياة وضيق العيش وحدهما فعلا مالم تستطع أفواج (المحللين والناشطين والاستراتيجيين) فعله في توحيد السوريين حول مطالب حياتية أقل من بديهية.
الخيار الآن هو للسوريين جميعاً، وليس لمجموعه سورية دون غيرها:
هل نبقى رهائن انتظار ما قد تتفتق عنه عبقريات جهابذة الفكر والتنظير في المقلبين الموالي والمعارض في تعريف مايوحدنا كسوريين؟
أم أننا ولمرة واحدة مستعدين لحصر كل مطالبنا وأحلامنا في أمور محددة وواضحة ولاتستدعي الكثير من التنظير والتبحير؟ شيء من قبيل (دولة القانون التي تضمن المساواة والعدالة للجميع وقابلة لتداول سلطتها سلمياً)؟ والتي سيصبح أي توافق من عدمه، على رايات وشعارات وغيرها، أمراً ثانوياً جداً حال قيامها؟
بقلم: نشمي العربي/ المصدر: وايتهاوس