قبل عام من الآن، عاد بشار الأسد إلى الجامعة العربية وسط ضجة وصخب كبيرين، إذ مشى على السجاد الأحمر عند مشاركته في القمة التي عقدت في جدة بالمملكة العربية السعودية. وقد اتخذ القرار بإعادة سوريا إلى الجامعة العربية بعد 12 عاماً من العزلة التي فرضت عليها، وسط توجه إقليمي كبير نحو العودة للتعامل مع نظام الأسد ولتطبيع العلاقات الدبلوماسية والأمنية معه، إلى جانب السعي لإقناعه بحل بعض الآثار الإشكالية المهمة للأزمة السورية التي ما تزال رحاها تدور. وفي تصريحاته الرسمية على القمة التي عقدت في أيار 2023، احتفى الأسد بما وصفه بالفرصة التاريخية للسلام في المنطقة، وبإحلال التنمية والازدهار بدلاً من الحرب والدمار على حد تعبيره.
بعد مرور سنة بالضبط على ذلك، وتحديداً في 16 أيار من هذا العام، عاد رئيس النظام السوري إلى الطاولة برفقة الدول الأعضاء في الجامعة العربية في قمة المنامة بالبحرين، ولكن في هذه المرة، سُمح له فقط بالحضور بشرط أن يلتزم الصمت طوال القمة. والسبب هو أن مساعي الدول العربية لكسر الجليد المحيط بالأسد وتحويل نظامه إلى عنصر فاعل مسؤول تمخضت عن نتائج معاكسة تماماً، إذ لم تفشل تلك الدول في إقناع الأسد بتقديم أي تنازلات فحسب، بل إن كل جانب من جوانب “الأزمة السورية” أصبح أسوأ من ذي قبل منذ أن وطئ الأسد أرض السعودية خلال شهر أيار من العام الفائت.
وقبل فترة قصيرة من عودة النظام إلى الجامعة العربية، اجتمعت الدول العربية المحورية المؤيدة لمبادرة التطبيع في الأردن والتقت بوزير خارجية النظام السوري لوضع أساس من أجل: “دور عربي يقود الجهود الساعية لحل الأزمة السورية”، وبحسب ما تمخض عنه بيان عمان ومجموعة من الوثائق التي ظهرت لاحقاً، فإن المبادرة الإقليمية حددت خمس أولويات أساسية لا بد من تحقيقها من خلال عمل لجنة الاتصال العربية، وهذه الأولويات هي: زيادة المساعدات الإنسانية وتوسيع نطاقها، وضع الشروط اللازمة لعودة اللاجئين على نطاق واسع، إنهاء تصنيع المخدرات المحظورة وتصديرها من سوريا، استئناف عمل اللجنة الدستورية والتوصل إلى حل سياسي يتماهى مع قرار مجلس الأمن رقم 2254، وتأسيس هيئة أمنية دولية لتنسيق الجهود الساعية لمكافحة الإرهاب في سوريا.
ومنذ ذلك الحين، اجتمعت لجنة الاتصال العربية عدة مرات، واستمر التعاون مع الأسد على المستوى الثنائي بين سوريا والدول الإقليمية، بيد أن العمل على تلك القضايا الخمس لم يبارح مكانه، كما لم تتقدم قيد أنملة تلك العملية التي تصور واضعوها بأنها ستتم خطوة بخطوة من أجل العمل على تقديم تنازلات متبادلة، ويستثنى من ذلك سلسلة الزيارات التي قامت بها شخصيات رفيعة التقت بالأسد في مطلع عام 2023، وعودته إلى الجامعة العربية. أما فيما يتصل بالعملية السياسية، فلم يقتصر الأمر على عدم تحقيق أي تقدم يذكر، بل إن اللجنة الدستورية أصبحت معطلة بشكل كامل الآن، وعبر الأسد أكثر من مرة للدول العربية عن رفضه للمشاركة في أي عملية مستقبلية.
خلال العام الماضي، بقيت القيود المفروضة على إدخال المساعدات كما هي، في حين تراجعت المساعدات نفسها إلى أدنى مستوياتها، وسط نسبة تخفيض هائلة. وعلى الرغم من أن 90% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، أنهى برنامج الغذاء العالمي دعمه لسوريا بشكل كامل، كما أن الخطة الأممية للاستجابة الإنسانية لم تعد تمول اليوم إلا بنسبة 6%، وفي هذه الأثناء، بقي اللاجئون على رفضهم للعودة إلى سوريا التي ما زال الأسد يحكمها، في حين أشار تصويت أممي إلى أن 1% فقط من اللاجئين يفكرون بالعودة مستقبلاً في حال بقيت الظروف الراهنة على حالها. وبسبب الضغط الكبير، انتقل كل من الأردن ولبنان وتركيا إلى مستويات مختلفة من الترحيل القسري، وفي ذلك خرق للقانون الإنساني الدولي.
في الوقت الذي يستمر فيه النزاع في مختلف أرجاء البلد، تتواصل على قدم وساق تجارة المخدرات بتمويل من النظام وتحت حمايته، كونه يعمل على تصدير كميات تساوي قيمتها مليارات الدولارات من الكبتاغون إلى عموم المنطقة، وذلك عبر الاستفادة من طرق التهريب المحلية والإقليمية والدولية سواء عبر البر أو البحر. والحق يقال إن عمليات تهريب المخدرات التي تتم بتسهيل من النظام قد زادت من أنشطة التهريب على الحدود الأردنية بنسبة ثلاثة أضعاف خلال السنة الماضية. وما زاد الطين بلة هو أنه في غضون 48 ساعة من تعيين السعودية لسفير لها إلى سوريا في 26 أيار الجاري، ضبطت السعودية كمية من الكبتاغون المصنع على يد عناصر تابعة لنظام الأسد تعادل قيمتها 75 مليون دولار، كما ضبط العراق كمية أخرى تعادل قيمتها 40 مليون دولار.
بيد أن النظام لم يواصل تجارة الممنوعات فحسب، بل صار ينوع فيها، إذ أصبحت تشمل اليوم الكريستال ميث والأسلحة والتي يجري تسليمها عبر المسيرات أو من خلال جماعات معقدة من المهربين المدججين بالأسلحة والمرتبطين بالفرقة الرابعة التابعة للنظام أو بوكلاء إيران في المنطقة. وبسبب القلق الشديد الذي اعترى الأردن بخصوص خطر المخدرات، أخذ في بداية الأمر يستثمر في علاقة تعاون مع مخابرات النظام السوري، ولكن طرأ حالياً تغيير بنسبة 180 درجة على الأردن فصار يسقط المسيرات، ويدخل في اشتباكات كثيفة وطويلة على الحدود مع المهربين، وينفذ غارات في عمق الأراضي التي يسيطر عليها النظام داخل سوريا.
عندما أصبح الإحساس بالفشل جلياً، سعت الدول الإقليمية في بداية الأمر للتعاون مع الولايات المتحدة والشركاء الأوروبيين على المضي قدماً فيما يتصل بالملف السوري، ولكن سرعان ما تبخرت كل الطاقات التي وُظفت في هذا السياق عقب هجوم حماس على إسرائيل وما نتج عن ذلك من حملة عسكرية إسرائيلية على غزة. وخلال هذا العام، جرى تأجيل اجتماعات لجنة الاتصال العربية عدة مرات وسط عرقلة من النظام السوري ورفض للمشاركة أبدته دول مثل الأردن. وليس بغريب على الأردن وضع حد لما يجري، بل إن ذلك إن دل على شيء فإنما يدل على عمق الفشل الذي منيت به المبادرة العربية. فقد كان الملك الأردني عبد الله الثاني كبير مهندسي أجندة التطبيع، إذ قدمت حكومته ورقة بيضاء بخصوص العودة للتعامل مع الأسد في عام 2021، وروج لها بشكل كبير في كل من موسكو وواشنطن وعواصم أخرى.
أما في الولايات المتحدة، فقد تراجع الاهتمام بالملف السوري منذ سنين، لكن إدارة بايدن شجعت بالسر على العودة للتعامل معه إقليمياً خلال السنة الماضية، ومنعت الكونغرس من المضي قدماً في إقرار قانون مناهضة التطبيع مع نظام الأسد. وعلى الرغم من معارضتها للتطبيع نظرياً، لم تفعل تلك الإدارة سوى القليل لوقف التطبيع، في حين أن تدخلها في الكونغرس وسنه للقوانين يحمل مؤشرات مخيفة. وكما تبدو الأمور، فإن قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا ستنتهي صلاحيته في شهر كانون الأول المقبل، وعندئذ سيصبح أمام الحكومات والكيانات في مختلف بقاع العالم مطلق الحرية في التعامل مع نظام الأسد والاستثمار فيه، ولهذا لا مناص من ملء هذا الفراغ بأقصى سرعة.
بعد مرور أكثر من 13 عاماً، ما يزال الملف السوري بلا حل شامل، في حين أن ظروف البلد ما تزال تسوء أكثر من ذي قبل، وهي مستمرة بالتدهور. ولقد فشلت المساعي الإقليمية للمضي قدماً بهذا الملف فشلاً ذريعاً لأنها قامت بالأصل على افتراضات خاطئة. إلا أن هذا لا يعني بأنه لا فائدة ترجى من الدبلوماسية، لكنها لا يمكن أن تنجح في حال أطلق العنان للنظام من الخارج من دون قيد أو شرط، كما أن الأمر يحتاج لمساع وإرادة مشتركة ولاستثمار جاد من المجتمع الدولي برمته، إذ لا يمكن لحالة عدم الاكتراث الأميركية أن تستمر إن كان هنالك أي أمل لسوريا بالخروج من مصيبتها التي تعيشها اليوم.