حملت مجلة فورين بوليسي الولايات المتحدة الأمريكية السبب في الحرب الدائرة في غزة حالياً، وذلك بسبب السياسة التي تتبعها واشنطن في الشرق الأوسط منذ 30 عاماً.
جاء ذلك في مقال للبروفيسور ستيفن وولت، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد إن أمريكا.
ففي الوقت الذي يندب فيه الإسرائيليون والفلسطينيون موتاهم، وينتظرون سماع أخبار عن المفقودين، لا أحد يقاوم الميل للبحث عن تحميل شخص المسؤولية، فمن جهة تريد إسرائيل وأنصارها تحميل “حماس” المسؤولية، التي تتحمّل بلا شك المسؤولية عن الهجوم المروع ضد المدنيين الإسرائيليين، أما المتعاطفون مع القضية الفلسطينية فإنهم ينظرون إلى أن ما حدث هو نتيجة حتمية لعقود من الاحتلال الإسرائيلي والمعاملة القاسية للمواطنين الفلسطينيين.
ويؤكد آخرون أن هناك الكثير من اللوم الذي يتحمله آخرون، وأن من ينظر لطرف كبريء وآخر كمسؤول وحيد، فإنه يفقد القدرة على تقديم حكم نزيه. ومن المحتوم أن يؤدي الجدال حول الفاعل المباشر وأنه المخطئ يعمي النظر عن الأسباب المهمة المرتبطة وبشكل فضفاض بالنزاع بين الصهاينة الإسرائيليين والفلسطينيين العرب. وعلينا ألا نفقد الرؤية حول العوامل الأخرى، وحتى في ظل الأزمة الحاضرة، لأن آثارها قد تتردد حتى بعد توقف القتال.
والمكان الذي سيبدأ منه المرء لملاحقة الأسباب هي عشوائية بشكل متأصل؛ هل من كتاب ثيودور هرتزل، “الدولة اليهودية”، 1896، أم وعد بلفور، في 1917، أم الثورة العربية في 1936، أم التقسيم، في 1947؟ وهل الحرب العربية الإسرائيلية في 1948؟ أم حرب 1967؟
لكن الكاتب لا يريد العودة إلى هذه العوامل التاريخية، وقرر البداية من 1991، حيث تَحوّل الولايات المتحدة القوة الخارجية التي لا منازع لها في شؤون الشرق الأوسط، وحاول بناء نظام إقليمي يخدم مصالحها. وضمن ذلك السياق الواسع، هناك على الأقل خمس حوادث أو عناصر تساعد لكي توصلنا إلى أحداث الأسبوعين الماضيين المأساوية.
حرب الخليج أول ساحة لاستعراض القوة
كانت حرب الخليج وما بعدها في 1991 أول لحظة وما تبعها من مؤتمر مدريد للسلام. وكانت حرب الخليج أول استعراض مدهش للقوة العسكرية الأمريكية وفن الدبلوماسية التي أزالت خطر صدام حسين على ميزان القوة الإقليمي.
ومع اقتراب نهاية الاتحاد السوفييتي، كانت أمريكا في مقعد القيادة بالمنطقة. وفي ذلك الوقت انتهز جيمس بيكر، وزير خارجية جورج هيربرت بوش والفريق المجرب، الفرصة ونظّموا مؤتمراً في تشرين الأول/أكتوبر 1991 بحضور سوريا ولبنان ومصر والكتلة الاقتصادية الأوروبية ووفد أردنيّ- فلسطينيّ مشترك، من أجل تشكيل نظام إقليمي، ومع أن مؤتمر مدريد لم ينتج نتائج ملموسة، علاوة على اتفاق سلام، إلا أنه وضع الأسس لبناء نظام إقليمي سلمي. ومن المثير للاهتمام التفكير، لو أعيد انتخاب بوش وسمح لفريقه بمواصلة جهوده وما يمكن أن يحققوه بعد 1992.
إلا أن مؤتمر مدريد احتوى على عيب مصيري واحد بَذَرَ الكثير من المشاكل في المستقبل، وهو أن إيران استُبعدت من مدريد، وردّت بتنظيم مؤتمر للرافضين ضم جماعات فلسطينية، مثل “حماس” وحركة “الجهاد الإسلامي”.
وفي كتابه “التحالف الغادر”، ناقش تريستا بارسي أن “إيران نظرت لنفسها كقوة إقليمية مهمة، وتوقعت أن تحتل مقعداً على الطاولة”. و”لأن مدريد لم يكن مجرد مؤتمر عن النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، بل لحظة مهمة في تشكيل النظام الشرق الأوسطي الجديد”.
وكان ردُّ طهران على مدريد إستراتيجياً وليس أيديولوجياً، وحاولت أن تظهر للولايات المتحدة والآخرين أنها تستطيع تخريب جهودهم لإنشاء نظام إقليمي جديد، حالة لم تؤخذ مصالحها بعين الاعتبار. وهو بالتأكيد ما حدث، فمع انتشار العمليات “الانتحارية”، وأعمال العنف الأخرى، بعد اتفاقيات أوسلو، وتقويض إسرائيل لتسوية سلمية. ومع مرور الوقت أصبح السلام بعيداً، وتدهورت علاقات إيران مع الغرب، مقابل نمو علاقتها مع “حماس” وتوسعها.
أحداث 11 سبتمبر وغزو العراق
أما الحادث الحاسم الثاني، فهو المزيج المشؤوم من هجمات 9/11 والغزو الأمريكي اللاحق للعراق في 2003. ورغم أن قرار غزو العراق لا يمتّ إلا بطريقة عرضية للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني، مع أن النظام البعثي دَعَمَ الفلسطينيين على مرّ السنين، إلا أن اعتقاد جورج دبليو بوش قام على فكرة التخلص من صدام، وإزالة التهديد المفترض لأسلحة الدمار الشامل المزعومة، ستكون رسالة واضحة لأعداء أمريكا، وأنها قادرة على الضرب بقوة، وتعبيد الطريق لتغيير جذري في الشرق الأوسط وعلى الخطوط الديمقراطية.
وكل ما حصلوا عليه، للأسف، هو مستنقع في العراق، وتعزيز دراماتيكي لموقع إيران الإستراتيجي. وزاد هذا التحول في ميزان القوة مخاوفَ دول الخليج، وبخاصة السعودية، وبدأ الخوف المشترك من التهديد الإيراني بتشكيل العلاقات الإقليمية وبطرق مهمة، بما في ذلك تغيير علاقات بعض الدول مع إسرائيل. ودفعت المخاوف من “تغيير الأنظمة” إيران لتطوير سلاحها النووي وزيادة معدلات تخصيب اليورانيوم وعقوبات أمريكية صارمة جراء هذا.
الانسحاب من الاتفاق النووي
وبالنظر للوراء، فإن العامل الرئيسي الثالث هو قرار الرئيس دونالد ترامب الخروج من الاتفاقية النووية التي وقّعتها إدارة باراك أوباما ودول أخرى مع إيران، عام 2015.
وكان لقرار ترامب تبنّي سياسة أقصى ضغط ، الحمقاء، آثار مؤسفة. وقادت الحملة هذه إيران لضرب المنشآت النفطية السعودية في الخليج، ولكي تظهر لأمريكا أن أي محاولة لتغيير النظام لن يمر بدون ثمن ومخاطر.
وزادت هذه المخاطر مخاوف السعوديين، وبدأوا بالحديث عن الحصول على بنى نووية. وكما هو الحال في نظرية الواقعية السياسية، فالتوقعات من زيادة التهديد الإيراني قادت للتوسع في التعاون الأمني بين إسرائيل ودول الخليج.
اتفاقيات أبراهام
أما التطور الرابع، فقد كان اتفاقيات أبراهام، وهي نتيجة منطقية لخروج ترامب من الاتفاقية النووية، وكانت نتاج تفكير الإستراتيجي الهاوي، صهر ترامب، جاريد كوشنر، وأدت لتطبيع العلاقات بين إسرائيل وعدد من الدول العربية: الإمارات العربية المتحدة والسودان والمغرب والبحرين.
وقال النقاد إن الاتفاقيات لم تعمل على تعزيز السلام، لأن أياً منها لم يكن في حالة حرب مع إسرائيل، أو قادرة على التسبب بضرر لإسرائيل. وحذر آخرون أن السلام سيظل بعيداً، طالما لم يتم حل مشكلة 7 ملايين فلسطيني يعيشون تحت الاحتلال الإسرائيلي.
ولم يفعل جو بايدن أي شيء، وبعدما فشل في الوفاء بوعده في إحياء الاتفاقية النووية، ركز بايدن وجماعته على محاولات إقناع السعودية لكي تطبّع علاقاتها مع إسرائيل، مقابل ضمانات أمريكية أمنية، وربما تكنولوجية نووية متقدمة. وكان الدافع لكل هذا هو منع الرياض من التقارب مع الصين، وليس حل المشكلة الفلسطينية، وكان ربط التطبيع بضمانات أمنية محاولة لإرضاء الكونغرس.
ولأن بايدن لم يتحرك ضد حكومة بنيامين نتنياهو، التي ظلت تروّع الفلسطينيين، فإنه توصّلَ لنتيجة أنه لا يوجد فصيل يستطيع عمل شيء لكي يخرّب، أو يبطئ العملية من أجل لفت الانتباه لمحنة الفلسطينيين. وهو ما فعلته “حماس” بالضبط، مع أن الكاتب لا يبرر هجومها على إسرائيل.
فشل السياسة الأمريكية
وفي النهاية، العامل الخامس ليس حادثاً بمفرده، لكنه فشل الولايات المتحدة بتحقيق تسوية سلمية، فقد احتكرت واشنطن العملية السلمية منذ أوسلو ولم تقد إلى أي مكان. وأكد بيل كلينتون وجورج بوش وباراك أوباما أن الولايات المتحدة، الدولة الأعظم، مكرسة لحل الدولتين، لكن هذا الحلم بات بعيد المنال، إن لم يكن مستحيلاً.
ويرى الكاتب أن السياق مهم، لأن النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة بات عرضة للتحدي، فالصين والهند والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا تدعو إلى نظام متعدد الأقطاب. وهي تريد رؤية عالم لا تتصرف فيه أمريكا كقوة لا يمكن الغنى عنها، و كواحدة تتوقع من الجميع اتباع القواعد وتحتفظ بحق تجاهلها عندما يروق لها.
وتقدم العناصر الخمسة ذخيرة للتصحيحيين، مثل فلاديمير بوتين، الذين يقولون، اُنظروا ماذا فعلت أمريكا خلال 3 عقود من احتكار الشرق الأوسط؟ دمار في العراق وسوريا والسودان واليمن وليبيا ومصر التي تسير نحو الهاوية، وتحولت الجماعات الإرهابية وتحوّرت، ولم تعد إسرائيل آمنة. وهذا ما تحصل عليه عندما تدير واشنطن العرض.